معرفة الغير الوعي والأنا والغير عند سارتر - منتدى الفلسفة والعلوم الإنسانية
منتدى الفلسفة منتدى الباكالوريا - فلسفيات الباكالوريا آداب وشعب علمية بكالوريا علوم - باكالوريا آداب - منتدى الفلسفة منتدى علم الاجتماع منتدى علم النفس
هل يمكن معرفة الغير؟ وإذا افترضنا أن معرفة الغير ممكنة، فكيف يتسنى لنا ذلك ؟
ما الذي يجعل هذا السؤال مشروعا من الناحية الفلسفية؟ أو بعبارة أخرى، ما الذي يجعل كل محاولة لمعرفة الغير تصطدم بمشكلات كبيرة ؟ لماذا يكون من الصعب معرفة الغير؟ ربما ارتبطت الصعوبة بكيفية تصورنا لطبيعة وجوده. إن القول بإمكانية معرفة الغير أو باستحالة معرفته يتوقف بالدرجة الأولى على تصوراتنا لكيفية وجوده في العالم: هل هو ذات مفكرة، أنا آخر يتمتع بالوعي والإرادة أم أنه موضوع من الموضوعات؟ وتختلف تصورات الفلاسفة لطبيعة وجود الغير حسب زوايا نظرهم إلى الإنسان بصفة عامة وإلى وجود الأنا بصفة خاصة.
والحقيقة أن إشكالية وجود الغير ومعرفته لم تطرح بشكل جدي إلا في العصر الحديث ابتداء من ديكارت بالخصوص. وأما ما جعل هذه الإشكالية تفرض نفسها على المفكرين من بعده بقوة فهو قوله أن الحقيقة البديهية الأولى التي تدرك بشكل فوري ومباشر فهي حقيقة الكوجيطو: "أنا أفكر، إذن أنا موجود"، وهنا برزت الأنا لأول مرة باعتبارها الحقيقة اليقينية الأولى، أما الأشياء الأخرى والآخرون فإن وجوهم غير يقيني، بمعنى أنه لا يوجد دليل قاطع على أن لها وجود فعلي، فقد نشكل أفكارا عنها، ولكننا لا ندري ما إذا كان وجودها الفعلي هو ما ندركه بشكل مباشر. وهكذا فإذا كان إدراك الأنا قد تم بشكل مباشر وبديهي، فإن إدراك الغير هو إدراك غير مباشر وغير يقيني.
ومما يترتب عن ذلك أيضا أن وجود الغير ليس ضروريا لوجود الأنا في نظر ديكارت؛ فالأنا هي ذات مفكرة مكتفية بذاتها، تستمد وجودها من ذاتها، ولا يتوقف وجودها على وجود غيرها، إنها المطلق. وبهذا يكون ديكارت قد انزلق إلى براثن النزعة الفردانية solipsisme التي تقول بأن الذات المفكرة توجد بمعزل عن وجود الآخرين في العالم. كل فرد، من وجهة النظر هذه يشكل عالما خاصا منغلقا على ذاته. وما يترتب عن ذلك استحالة التواصل مع الغير ومعرفة عوالمه الداخلية. كل ما يمكن معرفته منه هي مظاهره الخارجية، ومما يدل على ذلك قول ديكارت في تأملاته الميتافيزيقية الثانية:
"إذا حصل أن شاهدت بمحض الصدفة رجالا يمرون في الشارع، فلا يفوتني القول عند رؤيتهم إنني أرى رجالا، تماما مثل قولي: إنني أرى شمعا؛ ومع ذلك، ما عساي أن أرى من خلال هذه النافذة غير قبعات ومعاطف ربما تغطي أشباحا أو كائنات اصطناعية على هيئة رجال تحركهم دواليب. لكنني أجزم بأنهم أناس حقيقيون. وهكذا أفهم بفضل القدرة على الحكم وحدها، التي ينطوي عليها عقلي، ما كنت أعتقد أني أراه بأم عيني"
يدل هذا النص على أن ديكارت يشك في وجود الغير بوصفه ذاتا مفكرة واعية، فهو يرى القبعات والمعاطف ويحكم جازما بأنهم أناس، ولكنه لا يدري على سبيل اليقين ما إذا كانت تلك الهياكل أو الأجساد التي يراها تنطوي في داخلها على حياة شعورية ووعي. إن الإدراك الحسي المباشر لا يخبره بوجود الوعي فيما يراه، ولكن، بإمكانه أن يفترض ويستنتج من خلال نوع من الاستدلال العقلي وجود الوعي في تلك الأجسام، أو أن يصدر حكما ويقرر جازما أن ما يراه كائنات إنسانية تتميز مثله بالوعي والإرادة. ولكنه لا يدرك هذه الحالات إدراكا فوريا مباشرا مثلما يدرك حالاته الشعورية، بل يدركها بشكل غير مباشر وعبر وسيط (الاستدلال). وهكذا، فعندما أرى أجساما تكسوها جلاليب أو قبعات ومعاطف أعلم أن وراءها حياة شعورية ووعيا. إن هذا النوع من الاستدلال يوحي بوجود حياة داخلية خلف جسد الغير، ولكنه لا يمكنني من إدراكها بشكل مباشر ومن معرفة طبيعتها الخاصة.
وإذا نظرنا إلى الإشكالية المطروحة في ضوء النص السابق، الذي يلخص وجهة نظر ديكارت، فسنجد أنفسنا أمام احتمالين اثنين.:
إما أن معرفة الغير لا يمكن أن تتجاوز المظاهر التي تبدو منه للعيان (خصائص الجسد وسماته الفيزيولوجية)؛ وإما أن معرفته يمكن أن تتحقق بواسطة نوع خاص من القياس وهو الاستدلال بالمماثلة الذي لا يوظف العمليات العقلية كوسائط، وإنما يطمح إلى إدراك الحياة الشعورية للغير بشكل فوري ومباشر، وهو النهج الذي سار عليه هوسرل للدفاع عن أطروحته التي تعتبر امتدادا وتطويرا للحل الذي اهتدى إليه ديكارت لتجاوز النزعة الفردانية التي أوقعه فيها الكوجيطو. تتلخص أطروحة هوسرل في إمكانية التوصل إلى معرفة الحياة الداخلية للغير انطلاقا من تجاربنا الشخصية في الحياة.
يرى هوسرل أن معرفة الغير لا تمر عبر وسائط البرهان العقلي كما يعتقد ديكارت، بل تنطلق من إدراك الجسد؛ ذلك لأن الغير يقدم نفسه كجسد ويتجلى من خلاله؛ فعندما أرى جسد الغير أفهم تعبيرات ملامحه في ضوء تجربتي مع جسدي الذي هو المحل الذي تجري فيه وقائع حياتي الشعورية، ويحصل لي اليقين على الفور بأن الجسد الماثل أمامي ينطوي في أحشائه على حياة شعورية داخلية. فإن رأيت احمرارا على وجنتيه أدركت على الفور أنه يعاني من الشعور بالخجل، لأنني مررت بهذه التجربة الشعورية في السابق وكان لها نفس الأثر على وجهي باديا للعيان. لقد أدركت ذلك على الفور عن طريق ما يسمى بالاستدلال بالمماثلة. يشتغل هذا النوع من الاستدلال على النحو التالي:
1. أنطلق من نفسي، فألاحظ وجود علاقة بين جسدي وبين تجاربي الشعورية وحالات الوعي التي أمر بها؛
2. ألاحظ وجود تشابه بين جسمي وجسم الغير؛
3. استنتج وجود حياة شعورية ووعي في جسد الغير، ووجود علاقة بين جسده ووعيه.
فبواسطة هذا الاستدلال يمكنني أن أستنتج من قسمات وجه الغير وسماته الفيزيولوجية حالاته النفسية أو الشعورية بشكل مباشر، لأن أسلوب الاستدلال المعتمد يقوم المقارنة التلقائية غير المفكر فيها (=لا تستخدم العمليات العقلية المجرد) بين أحوال جسدي وأحوال جسد الغير. والدليل على أن هذا النوع من الاستدلال لا يعتمد على العمليات العقلية المجردة هو أن الطفل الصغير يمتلك القدرة على إدراك التجارب الشعورية للآخرين بشكل تلقائي وفقا لطريقة الاستدلال بالمماثلة. وما يأخذ على هذا المنهج هو أنه جعل من الأنا المرجع الذي تقاس عليه أحوال الغير، ويكون من السهل أن يسقط الفرد حالاته الشعورية على الغير. هذا بالإضافة إلى أن الغير كما يتبدى في ضوء هذا المنهج هو الغير كما أتصوره أنا وليس الغير كما يتصور نفسه، فله عندي دلالة خاصة قد تختلف عن الدلالة التي يضفيها هو على وجوده.
ولتجاوز هذه الصعوبة اقترح سارتر منهجا آخر يقوم على تصور مختلف لحقيقة الغير بوصفه أنا آخر. إن حقيقة الغير، في نظره، ليست من جملة الحقائق الباطنية المستغلقة على الفهم والملاحظة، بل هي قضية أحوال لها تمظهرات شتى عبر سيرورة الحياة، تتجلى من خلال سلوكاته، وكيفية تنظيم مجالات حياته وهيكلة محيطه وبشكل يجعله يحمل بصمات تجاربه الشعورية كالخوف والقلق وما إلى ذلك، بحيث يمكن القول إن التجارب الشعورية للغير تلون عالمه وسلوكاته وتصرفاتها.
بالتوفيق للجميع
موقع وظائف للعرب في تونس والجزائر والمغرب العربي والخليج والشرق الاوسط واوروبا
من هنا