بحث حول المصادر الاحتياطية للقانون بحث بعنوان المصادر الاحتياطية للقانون
*المبحث الثاني: العرف كمصدر احتياطي للقانون.
العرف هو ما ألّفه النّاس،و ساروا عليه في تصّرفاتهم،سواء كان فعلا،أو قولا،دون أن يصادم نصّا.
و
هو يعتبر من أقدم مصادر التّشريع الإنساني، إذ أنّ البشرية بدأت بعادات، و
أعراف جـعلت منها شريعة تحتكم إليها.و لا يزال العرف إلى يومنا هذا من
أهمّ المصادر للقوانين (المادّة 1/2 من القــانـون المدني الجزائري ).و
الشريعة الإسلامية حينما جاءت وجدت كثيرا من الأعراف في المجتمع
العـربي،فأقرّت الصالح منها، و ألغت الفاسد من تلك العادات،و الأعراف.
و العرف الصحيح، كالمصالح المرسلة، يعتبر مصدرا خصبا في الفتوى، و القضاء، و الاجتهاد،فينبغي
أن يراعي في كلّ من تشريع الأحكام، أو تفسير النّصوص.
و سنتعرّض لموضوع العرف في ما يلي :
- المطلب الأوّل: مفهوم العرف،و أقسامه.
العرف هو ما استقرّ في النّفوس، و تلّقته الطّباع السّليمة بالقبول، فعلا، أو قولا، دون معارضة لنصّ،
أو إجماع سابق.
يفهم من هذا التّعريف أنّ تحقّق العرف يعتمد على عدد كبير من النّاس، اعتادوا قولا، أو فعلا تكرّر
مرّة بعد أخرى حتّى تمكّن أثره من نفوسهم، و صارت تتلّقاه عقولهم بالقبول، و الاستئناس.و من ثمّ
فإذا لم يكن الأمر المتعارف عليه شائعا بين أكثر النّاس لا يتكون به عرفا معتبرا، بل يكون من قبيل
العادّة الفردية، و السلوك الشخصي.و العرف أصل أخذ به الحنفية، و المالكية في غير موضع النصّ،
و
هو عندهم ما اعتاده النّاس من معاملات،و استقامت عليه أمورهم.و قال ابن
العربي المالكي أنّ العرف دليل أصولي بنى الله عليه الأحكام، و ربط به
الحلال، و الحرام.و قد اتّخذ من قوله عليه السّلام: « ما رآه المسلمون
حسنًا فهو عند الله حسن ».و الذي مفاده أنّ الأمر الذي يجري عليه عرف
المسلمين على اعتباره من الأمور الحسنة، يكون عند الله أمرا حسنا،و أنّ
مخالفة العرف الذي
يعدّه النّاس حسنا بشروطه المعتبرة
شرعا، يكون فيه حرج، و ضيق، بقوله: « ما جعل عليكم في الدّين من حرج ». و
من هنا، قال علماء المذهب الحنفي، و المالكي بأنّ الثابت بالعرف الصّحيح
كالثابت بالنصّ الشّرعي(1).
- ينقسم العرف إلى أربعة أقسام رئيسية :
*1/ العرف اللّفظي(أو القولي) :
- هو اتّفاق النّاس على استعمال لفظ معيّن يخالف معناه اللّغوي لأنّه شاع بينهم استعماله، بحيث
أطلق
هذا اللّفظ فهم معناه العرفي دون معناه اللّغوي.كتعارف النّاس على إطلاق
كلمة الولد على الذكر،دون الأنثى، مع أنّ الأصل اللّغوي يفيد شموله لهما
(2)، و عدم إطلاق لفظ اللّحم على السمك، مع أنّ اللّغة لا تمنع ذلك (3).و
إطلاق لفظ الدّراهم على النّقود الرّائجة في بلد ما،مع أنّ الأصل الـلّغوي
يفيد النّقود الفضيّة المسكوكة بوزن معيّن.
*2/ العرف العملي(أو الفعلي) :
- و هو اعتياد النّاس على الأفعال العادّية، أو المعاملات المدنية، أو التّجارية، و هو إمّا أن يكون
معروفا
لدى الجميع فيسمّى عامّا ( حيث تمّ التّعامل به لدى كافّة النّاس مثلا )،
و إمّا أن يكون خاصّا ببلد معيّن، أو بحرفة معيّنة.كتعارف النّاس على
تعجيل الأجرة قبل استيفاء المنفعة، أو تعارفهم على البيع بالتعاطي من غير
صّيغة لفظية، أو تعارفهم على دفع مبلغ معيّن من المهر في الزّواج قبل
الدّخول و غيرها من الأعراف العملية.
*3/ العرف العامّ:
- و هو الذي ألّفه النّاس، و اعتادوه في كلّ البلاد في وقت من الأوقات، من حاجات، و لـــــوازم
أصبحت جارية في أغلب الحاجات، كتعارف النّاس في الصّناعات، و الحرف التّجارية، و الجلوس
في المقاهي دون تحديد المدّة،و دخول الحمّام دون شروط،و إقامة وليمة الزّفاف عند الزّوج،و غيرها.
___________________________________
(1) الإمام محمد أبو زهرة / أصول الفقه ص 261. (2) كقوله تعالى : " يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين...".
(3) كقوله تعالى: " و هو الذي سخّر البحر لتأكلوا منه لحما طريا " النّحل14.
*4/ العرف الخاصّ:
- و هو الذي يتعارف عليه أهل بلد دون بلد، أو إقليم دون آخر، أو طّائفة من النّاس دون أخرى
كتعارف التجّار على أنّ العيب ينقص الثمن في البيع، و تعارفهم على استعمال خيار الرؤية في البيع
عن رؤية نموذج من البضاعة كلّها، و تعارف أهل بعض البلاد على تقسيم المهر إلى جزئين معجـّل،
و مؤجّل، و غيرها.
. المطلب الثاني: مزايا العرف، و عيوبه.
*1/ مزايا العرف:
يرجع الفضل في إبراز أهميّة العرف، ومزاياه للمدرسة التّاريخية التّي تعطي الأولوية للعرف على
التّشريع؛ إذ تبيّن أنّ العرف:
1 – يلائم،أو يوافق حاجات الجماعة،لأنّه ينشأ باعتياد النّاس عليه،فيأتي على قدر متـطلّـــبـات
المجتمع باعتباره ينبثق من هذه المتطّلبات،فبظهور متطّلبات جديدة تنشأ أعراف جديدة تزول بزوال
هذه المتطلبّات.
2– كما أنّه يوافق إرادة الجماعة أيضا باعتباره يصدر عنها،و ينشأ في ضمير
الجماعة،فهو قانون أكثر شعبية من التّشريع لأنّ مصدره الشّعب، بينما
التّشريع يصدر من السّلطة فيوافق إرادتها فقط،و قد سبق القول بأنّ
القوانين إذا صدرت بهذا الشّكل لن تستمرّ طويلا.
3 – إنّ العرف قابل للتطّور وفقا لتطّور الظروف الاجتماعية، و الاقتصادية، فهو يـتـطّور بـتــطّــور
المجتمع،و يزول إذا زالت الحاجة التّي أدّت إلى ظهوره.
*2/ عيوب العرف:
يمكن إبراز عيوب العرف في المسائل التّالية :
1 – العرف بطيء التّكوين، و كان يعتمد عليه في مرحلة كان فيها التطّور الاقتصادي،و الاجتماعي
بطيئين،
و لكن الآن مع سرعة تطّور المجتمع في جــميع المجالات لا يمــكن الاعتماد
عـليه لتطــّورالمجتمع في الحالات التّي تتطّلب السرعة.
2 – العرف متعدّد بل قد يكون محلّيا خاصّا بمنطقة معيّنة،ممّا يؤدّي إلى تعدّد القواعد القانــونية،
بينما التّشريع موّحد يطّبق على الكّافة.لهذا يظلّ التّشريع أوّل مصدر للقـانون، و أهمّه، لأنّه يحقّـق
وحدة القانون، و الأمن، و الاستقرار، إلى جانب كونه قابلا للتطّور بسرعة كلّما
تطّلبت الأوضاع ذلك،فيتّم إلغاء التّشريع القديم، أو تعديله، و صدور تشريع
جديد.
3 – إنّ القواعد العرفية مرنة، و عدم كتابتها يجعلها صعبة بحيث يكون من العسير ضبطها،بينما
التّشريع يسهل ضبطه لكونه مكتوبا.
و لا تعني هذه العيوب أنّ العرف قليل الأهميّة، و لكنّه يعدّ أقلّ فائدة من التّشريع، و تـــظلّ له
مكانته بحيث يعدّ المخرج العملي في حالة عدم وجود نصّ تشريعي إذ يرجع القاضي على العــرف
الجاري،كما أنّ المشرّع يستعين بالعـرف في مسائل معيّنة لا عنه بصددها،إذ هناك مسائل تقـتـضي
طبيعتها أن تكون لها حلول متـنّوعة قابلة للتـغيير، و بفـضل عـدم تجميدها، أو تقـييدها بنصوص
تشريعية تحول دون تطّورها المستمّر.
. المطلب الثالث: أركان العرف.
للعرف ركنان:ركن مادّي،و ركن معنوي يميّزه عن العادّة الاتـّفاقية.
الركن المادّي:
و يتمثّل في اطّراد،أو تكرار سلوك النّاس في مسألة معيّنة بما يكفي لإنشاء عادة Usage تتوفرّ فيها
شروط أساسيّة، و هي:
- أن تكون عامّة(Usage général) و يكفي أن تكون كذلك،و لو كان العرف محلّيا،أو مهنيا.
-
أن تكون قديمة) (Usage ancien أي مضت على ظهورها مدّة كافية لتأكيد
استقرارها. و تختلف هذه المدّة باختلاف البيئة،و هكذا تتحقّق الأقدمية
للعادة التي تنشأ في البيئات التجارية لكثرة تكرارها في وقت أقصر مقارنة
بالعادة التي تنشأ في بيئة زراعية.
- أن تكون العادة ثابتة (Usage constant) أي اتبعت بنفس الصورة منذ ظهورها بغير انقطاع.
الركن المعنوي:
هو اعتقاد الناس بالزاميّة العادة، أي شعور الناس كافّة بأنّهم ملزمون باتّباع هذه العادّة لأنّــــــــها
أصبحت
قاعدة قانونية،و يتعرّضون لجزاء في حالة مخالفتهم لها،و لا يوجد ضابط يمكن
الاستناد إليه لتحديد الوقت الذي يتمّ فيه توافر الشــعور بإلزام العرف. و
لكن ينشأ هذا الشعور تـدريجيّا، و متـّى استقرّ أصبحت العادّة عرفا.و
الركن المعنوي هو الذي يفرّق بين العرف، و العادّة إذ لو افتقدت العادّة
الركن المعنوي، ظلّت عادة فقط،و ليست عرفا، فتكون غير واجبة التّطبيق كما
أنّ التقاليد الاجتـماعية كالعادات المتعلّقة بآداب الزيارات،و التهنئة،و
تقديم الهدايا في المناسبات حتّى لو كانت عادات عامّة ثابتة،و
قديمة،فإنّها ليست عرفا،لعدم شعور النّاس بإلزاميتها فمخالفتها لا يترّتب
عنها جزاء.
العرف، و العادة الاتّفاقية.
يشترط العرف توفرّ الركنين المادّي، و المعنوي في نفس الوقت، و من ثمّ يتميّز عن مجرّد العــــادة
التـّـي يعمل بها دون أن يسود الاعتقاد بإلزامها، و لا يتحقّق فيها هذا العنصر إلاّ باختـيار الأفـراد
حينما يعبّرون عن إرادتـهم إزاءها بالاتـّـفاق على الأخذ بها،و لذلك يطلق عليها العادة الاتــّفاقية
( L’usage conventionnel).
و بما أنّ العادة يكون إلزامها بالاتـّفاق عليها فهي تخـتلف عن القاعدة المكملّة تشـريعية كـــــانت،
أو عرفية التـّي لا يلزم تطبيقها إلاّ إذا لم يوجد الاتـّفاق على خلافها.
و جدير بالذكر أنّ العادة غالبا ما تنتهي إلى أن تصير عرفا، و ذلك حينما تتوفرّ على عنـصر الإلـزام
المبني
على عقيدة عامّة في وجوب احترام السنّة التّي تجري بها العادّة، و وجوب
كفالة هذا الاحترام بقوّة القهر المادّي التّي تمارسها السّلطة العامّة، و
يترّتب على التفرقة بيــن العرف، و العادة الاتفاقية نتائج هامّة نذكر من
بينها ما يلي: العرف كأيّ قاعدة قانونية يطبّق فــي شأنه مبدأ لا عــــذر
بجهل القانون،أمّا العادة،و هي واقعة مادّية أساس إلزامها إتـّفاق الأفراد
فلا يصّح افتراض العلم بها.
العرف كأيّ قاعدة قانونية يلزم القاضي حتّى، و لو لم يطلب الخصوم تطبيقه على خلاف العادّة
التّي لا تطبّق إلاّ عند التمسّك بها من طرف المتقاضين، و من ثمّ يقع عليهم إثبات وجودها المادّي في
حين يلزم القاضي بمعرفة العرف كما يلتزم بمعرفة القانون بوجه عامّ، و إن كان له أن يتوسّل بكلّ
الطرق للوقوف على العرف بما فيها الاعتماد على الإثبات المقدّم من الخصوم، و خاصّة حينما يتعلّق
العرف المراد إثباته بمهنة معينّة حيث تكون الكلمة الحاسمة لذوي الاختصاص، و الكلمة الأخـيرة
للقاضي بمقتضى سلطته التّقديرية،و إن كان يخضع في هذه السلطة لرقابة المحكمة العليا باعتبــار
العرف قانونا أحال عليه التّشريع صراحة،و لا يخضع القاضي طبعا لهذه الرّقابة حينما يتعلّق الأمر
بمجرّد العادة إلاّ في حدود إثبات المتقاضين وجود اتـّفاق بينهما بشأن هذه العادّة فيطّبق آنذاك المبدأ
القانوني:العقد شريعة المتعاقدين ممّا يخوّل المحكمة العليا سلطتها في الرّقابة على تطبيق هذا المبدأ.
- المطلب الرابع: دور العرف،و أساس القوّة الملزمة له.
من وظائف العرف الأساسية دوره التّكميلي للتّشريع،و هذا عند سكوت هذا الأخير لكن للعرف
وظائف أخرى فقد يلعب دورا مساعدا للتّشريع غالبا بإحالة من هذا الأخير لكن إلى أيّ مدى يصـحّ
مخالفة العرف للتّشريع ؟.
العرف المكمّل للتّشريع.
إنّ الدور الأساسي للعرف باعتباره مصدرا رسميّا احتياطيا للقانون هو دوره المكملّ للتّشريع فـــــإذا
وجد نقص في التّشريع فيمكن أن يلجأ إليه لحلّ نزاع قانوني مثلا،و ذلـــك تطبيقا للمادّة الأولى من
القانون المدني التّي تنّص على ذلك صراحة لكن لابدّ من معاينة القاضي لهذا النّقص في التّشريع من
جهة، و لعدم إمكان سدّ هذا النّقص باللجوء إلى مبادئ الشريعة الإسلامية باعتبارها
المصدر الاحتياطي الأوّل من جهة ثانية.و يعلّل الفقه دور العرف المكمّل في
القوانين التي لا تجعل منه مصدرا احتياطيـا صراحة بأمرين:أولّهما أنّ سكوت
المشرّع عن مسألة معينّة يحتمل أن يفسّر بوجود عرف ثـابت يدّل في ذاته على
صحّة السّلوك المتبّع ممّا يستبعد الحاجة إلى تدّخل المشرّع لتـــغييره،
و ثانيهما أنّه عندسلوك القانون من الأفضل الاعتراف للعرف الموجود بالقوّة
الإلزامية لما في ذلك من ضمان للاسـتقرار القانوني، فالنّظام القانوني
يكون آنذاك مزوّدا بقاعدة سلوك مشهورة، و شّائعة يمكن لأيّ شخص أن يرجع
إليها على الأقلّ طالما لم يتدّخل التّشريع بما يتنافى معها و يلعب العرف
دوره على هذا النّحو،أي كمصدر رسمي تكميلي بالنّسبة لكلّ المعاملات التّي
تسري في شأنها مختلف فروع القانون.على أنّ هذه القاعدة لا تطّبق بنفس
الوتيرة، و القوّة بالنسبة لكلّ فروع القانون.
فمثلا بالنّسبة لقانون العقوبات حيث يسود مبدأ لا جريمة، و لا عقوبة، و لا تدبير أمن بــــــغـير
قانون ( م 1 ق ع ) لا مكان إطلاقا للعرف بوصفه مصدرا تكميليا،و من ثمّ فعلى القاضي حين لا يجد
نصّا في التّشريع يقضي بتجريم الفعل، و العقاب عليه، أن ينطق بالبراءة دون تردّد.و لكن العرف قد
يلعب هنا؛ أي في القانون الجنائي كما في غيره من الفروع دورا مساعدا مثلا لتحديد مضمون النــصّ
كما سيأتي.
أمّا بالنسبة للقانون التجاري فنظرا للمكانة المتميّزة للعرف في هذا القانون فإنّ هذه القـاعدة قــــد
تستبعد أصلا للسّماح لقاعدة عرفية بمخالفة قاعدة تشريعية كـما سـيأتي. كما تجدر الإشـارة إلى أنّ
القواعد العرفية تتمتّع بمكانة خاصّة في مجال القانون الدّولي،و لكن يتعلّق الأمر هنا بالعرف الدّولي.
العرف المساعد للتّشريع.
يمكن أن يلعب العرف دورا مساعدا للتّشريع، و يلاحظ في هذا الصدد أنّ التّشريع ذاته غـــالبـا ما
يحيل على العرف كما هو الشأن في القواعد المكملّة التّي غالبا ما تنتهي بالعبارة التّالية ما لم يوجد
اتّفاق، أو عرف يقضي بغير ذلك كما جاء مثلا في المادّتين 387، و388 من القانون المدني )، و قـد يلعــب
العرف
دورا في تحديد مضمون النصّ التّشريعي، و من أمثلة ذلك القاعدة التي تقرّر
أنّ العقد لا يقتصر على إلزام المتعاقد بما ورد فيه فحسب بل يتناول أيضا
ما هو من مستلزماته وفقا للقانون،و العـرف،و العدالة بحسب طبيعة الالتزام
( م 107 من القانون المدني )،و هكذا يمكن الاستعانة هنا بالــعرف لتحديد
المقصود بعبارة " مستلزمات العقد "، و نفـس الأمر بالنّسبة للعيوب التـّي
يتضـمنّها المؤجـرّ،و مسؤولية البائع عن النّقص في مقدار المبيع التّي
تحدّد بحسب ما يقضي بــــــه
العرف (المادّة 365 ف1من القانون
المدني ) كما يكون للعرف أيضا دور في الكشف على القصد عند المتعاقدين، و
هكذا يحيل القانون على العرف للاسترشاد به من طرف القاضي للتعرّف على نيّة
المتعاقدين مثلا في المادّة 111 ف2 من القانون المدني التّي تنّص على أنّه
" إذا كان هـناك محلّ لتأويل العـقد فيجـب البحث عـن الـنيـّة المشتركة
للمتعاقدين دون الوقوف عند المـعنى الحرفي للألفاظ مع الاستهداء في ذلك
بطبيعة التّعامل، و بما ينبغي أن يتوافر من أمانة،و ثقة بين
المتعاقدين،وفقا للعرف الجاري في المعاملات ".
أساس القوّة الملزمة للعرف.
طرحت في الفقه الإسلامي مسالة الأساس الذي يستمّد منه العرف قوّته الإلزامية، و اقترحت في هذا
الصدد
عدّة نظريات من بين هذه النظريات تلك التّي تبني إلزام العرف على إرادة
المشرّع، و لكن سبق العرف للتّشريع كاف لدحض هذه النّظرية، و هجرها،و
البحث عن أساس آخر.و هكذا أوجد الفقـــه أساس الضّمير الجماعي باعتبار أنّ
الــــــقانون استنادا إلى المذهب التّاريخي ينشأ،و ينمو في ضــمير
الجماعة، و العـرف أفــــضل وسيلة للتّعبير عن ذلك، و الكشف عنه
مباشرة.لكن إلى هذا الحدّ يكون المذهب التّاريخي قد أسهم في بيان العناصر
المكونّة للعرف، و خاصّة العنصر المعنوي دون ينـــــفذ إلى جوهر أساس
إلزام العرف لغموض الفكرة المبنيّة عليها أصلا النظرية التّاريخية.
اقترح كذلك أساس آخر هو الأساس القضائي، بمعنى أنّ العرف يأخـذ قوّته الإلـزامية بعـد أخذ
المحاكم
به، و لا شكّ أنّ هذه الفكرة لها ما يبــررّها في نظام السّوابق القضائية
(النظام الإنجليزي )، و لكن يكفي الرّجوع إلى إلزامية القواعد العرفية
المهنية لدحض هذه النظرية التّي لا تستقيم أيضا مــن زّاوية كون القضاء
يطّبق القانون الذي يسبق إلزامه كلّ ما هنالك أنّ القضاء يمكن أن يساعد في
تحديد مضمون العرف، و تدعيم قوّته الإلزامية، و هكذا ينتهي الرأي الغالب
إلى أنّ للعرف قوّة إلزامية ذاتية معترف بها من السّلطة العامّة ( م 1 ق
مدني ).
*المبحث الثالث: مبادئ القانون الطّبيعي،و قواعد العدالة .
ذكر المشرّع الجزائري في-المادّة الأولى من القانون المدني- مبادئ القانون الطّبيعي، و قــــواعد العدالة
كمصدر
يــمكن أن يلجأ إليه القاضي عندما لا يجد قــاعدة يطّبقها لا في
التّـــشريع،و لا في المصدرين الاحتياطيين المدروسين سابقا؛ أي مبادئ
الشّريعة الإسلامية،و العرف.
- المطــــلب الأوّل: المقصود بمبادئ القانون الطّبيعي، و قواعد العدالة.
إنّ القانون الطّبيعي فكرة يسودها غموض كبير منذ نشأتها القديمة حيث كانت تعني نــــوعا من
إسقاط التوازن المثالي للطّبيعة على الحياة الاجتماعية،ممّا يضمن سيادة مبدأ سامي للعدالة،و مـن
ثمّ يقترن القانون الطّبيعي دائما بفكرة العدالة.
كما أنّ القانون الطّبيعي يقصد به تلك القواعد المثلى في المجتمع،كالقيم الإنسانية المتعلّقة بالـــخير،
و
الشرّ،و هناك مـن عرّفها أنّـها مجموعة المبادئ العليا التّي يسلّم العـقل
الإنساني السّـليم بضرورتها في تنظيم العلاقات بـين الأفراد داخل المجتـمع
الإسلامي، أمّا قواعد العدالة فهي تلك الفكرة المرنة،و التّي يختلف
مفهومها من شخص إلى آخر.
و من بـين المـبادئ المستعملة من قواعـد العدالة حماية حقوق الإنسان، و حماية الملكية الأدبية،
و الفنيّة، و عدم التعسّف في استعمال الحقّ.
- المطــــلب الثاني:
المقصود بالإحالة على مبادئ القانون الطّبيعي،و قواعد العدالة .
لكي نفهم المقصود بإحالة المشرّع على مبادئ القانون الطّبيعي،و قواعد العدالة،لابدّ من التــــــّذكير
بالكيفية التّي دخل فيها القانون الطّبيعي التّقنيات، و أخذ الصّبغة الرّسمية فيها.
لقد سبقت الإشارة إلى أنّ القانون الطّبيعي يعتبر المصدر المادّي الأسـاسي للـــــــقانون الوضعي، إذ
يستلهمه المشرّع من مبادئه العامّة لوضع القواعد التّفصيلية لهذا الأخير، و هي التّي يطبّقها القاضي.
و لكن ما دور مبادئ القانون الطّبيعي،و قواعد العدالة بالنّسبة للقاضي ؟
يتبيّن من قراءة أوليّة للمادّة الأولى من القانون المدني أنّ المشرّع قد رتّب مبادئ القانون الطّبيعي،
و قواعد العدالة في المرتبة الثالثة من بين المصادر الرّسمية الاحتياطية، و لكن سرعان ما يتبيّن مـن
قراءة تحليلية، و تّاريخية لهذا المصدر الاحتياطي للقانون أنّ المشرّع ما كان يقصد بالإحالة إليــــه
اعتباره حقيقة مصدرًا رسميًّا احتياطيًّا، و لكن مجرّد مصـدر مادّي يستعـين به القاضي في إيــــجاد
الحلّ للنّزاع المعروض عليه حينما لا تسعفه في إيجاد هذا الحلّ، المصادر الأصلية، و الاحتيـاطية.
فمن زاوية تحليلية لفكرة القانون الطّبيعي يلاحظ أنّه على خلاف المصادر الاحتياطية الأخـــــــرى
لا يتضمنّ هذا المصدر الأخير قواعد دقيقة محدّدة قابلة للتّطبيق، إذ هو من المبادئ، و القيّم المثـالية
التي تقوم بها البشرية جمعاء؛ فالقاضي لا يجد إذن أمامه قواعد يطبّقها هنا، و إنّما يعتمد عل هذه
المبادئ المثالية،و يضع نفسه في مكان المشرّع،و ينشئ قاعدة من هذه المبادئ،و يطبّـــقها على النّزاع
المعروض عليه،لكن هذه القاعدة ينتهي مفعولها بحلّها للنّزاع الذي وضعت من أجــل حلّه؛فالقاضي
يطبّق القانون،و لا ينشئه،و ممّا يؤكدّ هذه الفكرة أنّ الفقهاء بما فيهم كبار أنصار القـــانون الطّبيعي
لم ينظروا أبدا إليه كمجرّد قانون يتضمنّ مبادئ عامّة موّجهة للحلول العادلة التي يستــخلصها من
هذا القانون المشرّعون حسب الوضع الاجتماعي الذي يريدون تنظيمه، فلا يمكن إذن تصّور أن يكون
القانون الطّبيعي مصدرا رسميا للقانون، بل مصدرًا احتياطيًّا له.
- المطــــلب الثالث: مدى ملائمة الإحالة إلى مبادئ القانون الطّبيعي، و قواعد العدالة.
-
إننّا نرى أنّ نصّ المادّة الأولى من القانون المدني على إحالة القاضي إلى
مبادئ القانون الطبيعي، و قواعد العدالة ليس له ما يبرّره،ذلك أنّ هذه
المادّة تعدّ الشريعة الإسلامية المصدر الاحتياطي الرّسمي الأوّل بعد
التشريع،و مبادئها هي الأدّق،و الأكثر انضباطا،لكن مبادئ القانون الطبيعي،
و قواعد العدالة تنوب عنها، و المستخلص أنّ التشريع أصل يحيل إليها.