تاثير داروين
قيل عن سخرية نيتشه من اتباع التطور في انجلترا انها لم تكن تعبيرا عن رفضه للفكرة التي جاءوا بها ولتعارضها مع مضامين فلسفته ، اكثر من ان تكون اقرارا لاشعوريا بالمدى البعيد الذي تغلغلت في عقله والتأثير الشديد الذي احدثته في تفكيره ورؤاه ، وما فعله معهم كان طبعا قد اكتسبه بـ (( مهاجمة كل من يدين له بفلسفته )) ، واننا نلمس هذا الطبع واضحا في سلوكه مع صاحبيه شوبنهور وفاجنر حينما اعرض عنهما وانكر عليهما موقفهما المتشائم من الحياة ، المتخاذل في مجابهة الروح الاستسلامية للاديان عامة والمسيحية بشكل خاص ، وهو نفس الذي فعله مع موروثه الديني الذي تلقاه من والديه في تربيته ، ومن الايمان بالله الذي تملك قلبه واستحوذ على روحه ، اذ انكر دينه وامات الهه ورفض الموروث واقام بدله دينه الجديد ، وفعل هذا ايضا مع افلاطون الذي استمد منه الكثير من افكاره لدرجة قيل فيها (( ان فلسفته الاخلاقية والسياسية هي فلسفة افلاطون نفسه)) ..
لقد ايد فيهم (( اتباع التطور )) رفضهم للاهوت المسيحي لكنه انكر عليهم عدم جرأتهم على اعلان رفضهم للاخلاق المتفرعة عنه بما تتضمنه من صفات الليونه والضعف . اما عن الصراع التراجيدي الذي تعيشه الكائنات الحية فيما بينها في رحلة البقاء فتلك رحلة آمن بها نيتشه وكانت من ابرز ملامح فلسفته والعامل الاكثر ظهورا وتأثيرا لديه ..
فاذا كان البقاء للأصلح عند دارون ، وان الاصلح هو من يمتلك الخصائص والقدرات و الاعضاء الانسب لتلاؤم الحيوان مع البيئة يعيش فيها ، في حومة الصراع الملحمي الذي يعيشه ضد الطبيعة وقسوتها والحيوانات الاخرى واخطارها وما جبلت عليه من الشراسة والعدوانية واكل لحوم الاخرين ، فقد امن بمثل هذا نيتشه وراى (( ان الانسان من اشد الحيوانات قسوة)) يكشف عن هذا مظاهر الاستمتاع التي يبديها عند مشاهدته لمباريات المصارعة مع الثيران وما فيها من ارهاق وتعذيب للحيوان وقتله ، وكذلك في متابعة مشاهد القتل واعدام المحكومين .... ويكشف عن هذا ايضا ما ابداه الانسان القديم من مشاعر الفرح ونشوة الانتصار حينما يبطش بعدوه وينال من الاخرين.
لقد كانت الطبيعة القاسية هذه ،عند نيتشه ، الدافع الحقيقي في اختلاق قصة جهنم اذ ان فيها تحقيقا مقنعّا لرغبة التنكيل بالاعداء والظلمة من الجبابرة المتكبرين
. والحياة في نظره طافحة بالشرور والقسوة وميدان تدور على ارضه معركة عنيفة وتملأ سماءه رياح العداء وتعم فيه مشاهد البطش وتمزيق الاشلاء . ولهذا انقسم المجتمع الى طبقتين رئيسيتين طبقة الاسياد وطبقة العبيد . وكذلك الاخلاق ، اخلاق السادة واخلاق العبيد ،فلم يكن له مع كل هذا الا التحذير من ذوبان طبقة السادة واضمحلالها والدعوة الى المحافظة على نقاوتها ومنعها من الاختلاط بالعبيد .. فعند السادة قوة الارادة وثبات العاطفة والشدة والقسوة ، انها الخصال التي يلزمها الظرف الصعب ، ولن نجد هذا في من ينتمي الى طبقة العبيد . وانكر نيتشه النظام الديمقراطي ونادى بحكومة الاقلية الارستقراط، اذ ان في الارتكان الى الحكم الديمقراطي تغليب للطبقة المتدنية واشاعة لاخلاقهم فهم الاكثر عددا وفي سيادتهم تموت البطولة والتفرد والابداع ، لقد حذرنيتشة من طغيان مشاعر الحب بين الناس وانكر الزواج عن حب ودعى الى منعه ، فالحب يجمع ((الابطال بالخادمات، والعباقرة بالخياطات وعارضات الازياء )) ويجمع بين الطبقتين وينتج الاختلاط المضر الكريه.
وما ذهب اليه دارون في ان للاحياء سلم تطور يقف الانسان على اعلاه (( بشكل من التصريح والتمويه )) وان الهوة ((في القوى الفكرية)) بين اقل الحيوانات تطورا وبين القردة العليا هي اوسع من تلك التي بين القردة هذه وبين الانسان (( مما يؤكد اعتقاد دارون في انتماء الانسان الى هذه المملكة ومحكوم بقوانين التطور التي تحكمها ، فهو وان ذهب الى ان الانسان هو الحيوان الوحيد الذي يمتلك اخلاقا تحكمه ، لكنه لم يجد في ذلك تناقضا مع مبدأ تنازع البقاء المحكوم بتشبث الاحياء على المحافظة على ديمومة يقاءها وان أدى ذلك الى الفتك بالاعداء وفي هذا تعارض واضح مع القانون الأخلاقي الذاهب الى تغليب المجموع على الفرد والتضحية بالفرد من اجل المجموع ، اذ راى ان في ذلك فائدة في حفط النوع وامتدادا لحياة الفرد ، وفي امتلاك المجموع الصفات الملائمة تتعزز مقومات بقاء الافراد ، وراى الفعل الاخلاقي المتجاوز لمصالح الفرد من الامور الظاهرة عند مملكة الحيوان اذ نلمسها واضحة في ما يقدمه لغيره خلال ممارساته اليومية من تربية الصغار وجمع الغذاء وبناء المستعمرات ، وان الفرق هنا (( بين القردة والانسان)) فرق بالكم والدرجة لا بالكيف والنوع .. قد ذهب الى مثله نيتشه (( في مضامين مقاربة )) و بشر بالانسان الاعلى الاتي الى العالم منحدرا منا ، وان هذا الوليد هو الهدف وما نحن الا جسر ممدود بين القرد والانسان الاعلى ، وبالرغم من ان بزوغ الانسان الاعلى وانبعاثه باعتباره وليدا جديدا انحدر من سلالة الانسان الحالى فان ((قدراته العليا)) لم تكتسب عن تطور بيولوجي وانتخاب طبيعي محكوم بقوانين البيولوجيا الموروثة من اسلاف امتلكوا اعضاءا وقدرات مناسبة لظروف بيئتهم واساليب معيشتهم وفقا لمبدا - البقاء للاصلح – المنتهي بتغليب المجموع والقبيلة على الفرد نفسه بل على أساس تغليب الفرد المميز على المجموع الهابط وان العبرة هي ان يرتقي السلم كيف متطور وفرد عظيم لا كم متدهور وشعب متخلف ولا يتم ذلك الا بالتوسع والنمو والتطور وامتلاك القدرات العالية والصفات الممتازة التي يمتلكها ((السوبرمان)) .
هذا وقد انتهج الاثنان ، ، منهجا تاريخيا تطوريا يعودان فيه الى الاحقاب الماضية من عمر الانسان خاصة و الحيوان بشكل عام ، ليجدا هناك الصور الاولى للبناء التطوري والنواة التي تفتقت عن شجرة حياة بيولوجية واجتماعية متطورة ، يقف في اعلاها الانسان .. لقد كانت نظرية دارون خيطا لامعا وظاهرا من بين الخيوط التي حاك بها نيتشه نسيجه ، ومعالم بارزة في الهيكل الفكري الذي شيده لفلسفته ..
كان دارون رجلا ملحدا، اعلن لاادريته ،.. لاينكر الله ((تعالى الله)) ولا يقطع بوجوده ، وان قضية الايمان والالحاد عنده، لغز مستغلق والقطع في ذلك خارج عن دائرة قدرات الانسان وحدود عقله. وما على الانسان بعد هذا الا المداومة على (( تأدية واجبه )) ..
لقد كان دارون معاصرا لنيتشه ومزامنا له فهل الالتقاء والتشابه بينهما ، كان على اساس من التاثير المتبادل ام انهما الاثنين قد شربا من نفس مياه الجدول الجاري في اودية الفكر الفلسفي والتطور العلمي ذلك الحين ..
جوبينو
ومن الذين عاصروا نيتشه وقدموا افكارا مشابهة ، الكاتب الفرنسي الاديب الفيلسوف ((ارتور دو جوبينو)) .. لقد كان من المؤمنين المخلصين بالتفاوت العنصري وبالتفوق الطبيعي (( العرقي )) للاجناس القوقازية ، وله بحوث ودراسات منها ( التفاوت بين الاجناس البشرية ) مع ما عرف عما له من ملكات الرسم والنحت والكتابة الروائية وشغله منصبا دبلوماسيا في السفارة الفرنسية في المانيا ،وقد ابدى اسفا بالغا على ما أصاب الجنس الاري من تدهور بعد ان اختلط بسلالات أخرى ادنى منه مرتبة وصار العالم اليوم خليطا هجينا يصعب العثور فيه على من يحتفظ بالصورة النقية للعنصر ، حذر من الاختلاط بين الاجناس المتفوقة وبين المتدنية ، ففي الاختلاط ذوبان لنقاوة العنصر المتفوق واضمحلال لصفاته المميزة وتدهور للمستوى العام في المجتمع ،وفي تدهور الاخلاق المتعالية وضمور القدرات والاستعدادات التي يمتاز بها العنصر المتفوق تتدنى الحضارة ويضمحل الابداع ..
ان بين الاثنين نقاط تلاقي وتشابه ، لقد عرف هو الاخر ريتشارد فاجنر واعجب به كاعجاب نيتشه ، وكان اعجابا متبادلا اظهر فيه فاجنر تاثره الواضح بشخصية جوبينو واراءه فقرا مؤلفاته وجعل منه ضيفا دائما على المسرح الذي يستعرض عليه اعماله ، كلاهما ( نيتشه وجوبينو ) - ومعهما فاجنر- اولى للتاريخ دورا في صياغة الحاضر الذي نعيشه .. وكلاهما امن بلزوم المحافظة على العنصر المتعالي والارستقراطي في المجتمع ‘ ولقد الصقت بالاثنين التاثيرات التي تذرع بها دعاة الأفكار العنصرية والحركات السياسية الناشئة عنها .. وكما لاحظ مؤرخو الفلسفة وجود علاقة بين نيتشه ودارون بلغت من قوة التاثير وشدة الوضوح لان يقولوا عن نيتشه انه ((ولد دارون)) ، ذهب دعاة النازية في القرن العشرين الى ان ماجاء به جوبينو هو امتدادا لتاثير دارون، يبدو هذا برايهم فيما يدور في فكريهما من مفاهيم الانتخاب الطبيعي ، والتمايز الجنسي، وانتقال الصفات المتحركة على جسر التواصل والاختلاط ، والمنحدرة مع مجرى الزمان من الاسلاف الى الاخلاف ... ولا ينفي هذه العلاقة اختلاف دارون المؤمن بلزوم الاختلاط العرقي خلافا لما نادى اليه جوبينو اذ ان في الاختلاط – على ما يرى دارون - تشتيت للصفات الضارة ومنعها من الظهور على صور صفات طبيعية (( عرقية )) مميزة في المجتمعات المنعزلة والمغلقة ....
اسأل الله تعالى التوفيق لاكمال المقال واظهار ما لم يقال . . اذ ان في ما نشر عن نيتشه نتاجا وفيرا يغريني بتناول الجوانب السيكلوجية لهذا الفيلسوف وشخصيته .. وافراد فصل خاص عن مسالة الالحاد والايمان .