مراجعة للفلسفة - الثقافة والحضارة
حتى فلاسفة ألمانيا كان لهم نصيبهم في هذه التفرقة. هذا كانط نفسه يذهب إلى القول: إنه لا وجود لحضارة تمتد إلى الفضاء الثقافي الأوروبي ما لم يتقدمها في كل دولة وفي كل أسرة وفي كل فرد جهد تثقيف شخصي فردي Cultura animi موجه نحو مثال أخلاقي يحتذى. وهذا نيتشه يذهب إلى القول: أَلا كم تبتعد هي قمم الثقافة عن قمم الحضارة!فلا ينبغي أن نخطئ بشأن الصراع العميق بين الثقافة والحضارة. والشاهد على ذلك أن لحظات الثقافة الكبرى رافقت دوما، إذا ما نحن استعملنا اصطلاحات أخلاقية، حقب انحطاط (حضاري)؛ وبالضد، فإن حقب تدجين الإنسان (حقب الحضارة) كانت دوما حقب عدم التسامح اتجاه الأفراد الأكثر ثقافة والأكثر جرأة، إن الحضارة لتريد غير ما تريده الثقافة، لربما تريد هي شيئاً مناقضا لها على الإطلاق(16).
على أن ثمة وجها خفيا لمعركة المفاهيم هذه؛ ذلك أن الألمان لم يغفروا أبدا للفرنسيين نزعتهم التوسعية التي تبدت مع نابليون، ولم ينسوا لهم ادعاء أن لهم رسالة في تمدين الأمم سميت «رسالة فرنسا الحضارية». فقد عمد أحد عمداء جامعة ألمانية إلى التصريح يوم 15 أكتوبر من سنة 1870م: «إن انتصار ألمانيا لهو انتصار الحضارة بأوروبا»، وكأنه يجيب بذلك على قول مؤرخ الحضارة الفرنسي غيزو Guizot عام 1829م في كتابه الشهير «تاريخ الحضارة بأوربا منذ عهد سقوط الإمبراطورية الرومانية»: «كانت فرنسا مركز حضارة أوروبا ومأواها». بهذا صارت الحضارة كل يدعيها لنفسه وينزعها عن غيره، وقد كان الأديب الفرنسي الشهير فيكتور هيغو صرح عام 1871م: «إن الحضارة، وقد صارت وجها لوجه أمام البربرية، لتبحث عن شق طريقها بين أمتين: في واحدة منهما كانت على الدوام نور أوروبا (يعني فرنسا) وفي الأخرى ستكون ليلها (يعني ألمانيا)».
هذا وقد حلل عالم الاجتماع الألماني الشهير نوربرت إلياسNorbert Elias هذه المعركة تحليلا تاريخيا وسوسيولوجيا، فوجد أن «تاريخ المفهومين الألمانيين عن «الحضارة والثقافة» يرتبط ارتباطا وثيقا بتاريخ علاقات ألمانيا مع كل من انجلترا وفرنسا». إذ أكد -بداية- على الملاحظة التالية: لا توجد دلالة موحدة لمفهوم «الحضارة» لدى أمم الغرب، وإنما ثمة فارق كبير بين إعمالها لدى الانجليز والفرنسيين، من جهة، والألمان من جهة أخرى: لدى الأوائل، يلخص اللفظ دلالة ازدهاء الأمة بنفسها واعتدادها بذاتها، كما يعكس مظاهر تقدم الغرب خاصة والبشرية عامة، وعند الثواني يدل اللفظ على أمر نافع لكنه ذو أهمية ثانوية؛ أي «ما يشكل الجانب البراني للإنسان، ووجه الوجود البشري معتبرا في برانيته لا في جوانيته». وهكذا فإنه: «لما يريد الألماني أن يعرف بنفسه، ولما يريد أن يفخر بإنجازاته الخاصة، فإنه عادة ما يلجأ إلى استعمال لفظ «الثقافة»». وبينما يمكن أن يحيل لفظ «الحضارة»، في الاستعمال الفرنسي والإنجليزي، إلى وقائع سياسية واقتصادية ودينية وتقنية وأخلاقية واجتماعية، فإن مفهوم «الثقافة» الألماني يحيل، جوهريا، إلى معطيات فكرية وفنية ودينية، ويميل، بهذا، إلى إقامة خط فاصل بين هذه والوقائع السياسية والاقتصادية والاجتماعية(17). وبينما يمكن أن يتقصد الاصطلاح الفرنسي والانجليزي -الحضارة- تحقيقات وإنجازات، كما يمكن أن يتقصد مواقف الناس وسلوكاتهم، أفاخروا بها أم لا، فإن لفظ «الثقافة» الألماني لا يفيد دلالة سلوك الناس أو موقفهم. وفارق آخر؛ هو أن اصطلاح «الحضارة» يشير إلى سيرورة اكتملت أم لم تكتمل لكنها سائرة، أما اصطلاح «الثقافة» الألماني فإنه يشير إلى منتوجات الإنسان: الأعمال الفنية، الكتب، المنظومات الدينية أو الفلسفية المعبرة عن خصوصيات شعب معين. إذ له دلالة حدية(18). وبينما يمحي اصطلاح «الحضارة» -إلى حد ما- اختلافات الشعوب، ويركز -بالمقابل- على المشترك بينها أو ما ينبغي أن يكون المشترك بين بني البشر، كما يعبر عن رضا شعوب تحددت حدودها وسماتها الخاصة وانتقلت إلى ممارسة استعمار غيرها من الشعوب، فإن الاصطلاح الألماني -«الثقافة»- يركز على الاختلالات القومية وعلى خصوصيات الجماعات. وهي الدلالة التي امتدت إلى حقل الاثنولوجيا والانتربولوجيا حتى خارج المجال التداولي الألماني، كما ألمعنا إلى ذلك من ذي قبل.
إنما الرهان الايديولوجي لمعركة المفاهيم هذه ناتج عن فارق بين أمتين أجابتا من ذي قبل عن السؤال: «من نحن؟ وماذا نكون؟» وطفقتا في تعريف الشعوب بنفسها (الاستعمار)، وأمة لا زالت حائرة في الجواب عن السؤال ذاته، ولا زالت هي تبحث أن تعي هويتها، ولا زالت تحاول تحديد سمتها الوطنية وتعزيز حدودها السياسية والروحية. ومهما حاول الألماني أن يشرح للفرنسي والإنجليزي ما يعنيه باصطلاح «الثقافة»، فإنه يعجز لا محالة عن جعله يشعر بالتقليد القومي الألماني وبالبطانة الوجدانية التي تلف هذا الاصطلاح. وبالمثل، يمكن للفرنسي والانجليزي أن يجهدا على أن يفسرا للألماني المضامين التي جعلت من اصطلاح «الحضارة» تجسيدا لوعيهما القومي، فإنه إن بدا لهما هذا الاصطلاح معقولا وعقلانيا، فإنه ليس يمنع من أن يكون محاطا بهالة وجدانية وبطانة شعورية يصعب تحديدها. هذا ويتيه الحوار بين الطرفين ويطوح بهما في أغرب المطاوح إذا ما حاول الألماني أن يفسر للفرنسي والإنجليزي بأن لمفهوم «الحضارة» قيمة لا محالة، لكنها قيمة ثانوية، في حسبه، لا تتقدم على قيمة «الثقافة» عنده(19).
فهذان إذن مفهومان نبعا عن تجربة جمعية خاصة لا تكاد تعني شيئاً لغير من جربها: فليست هي تنعبر إلاَّ لأهلها، وإنها لمن باب المظنون به على غير أهله. شأنهما أنهما ما كانا كالمفاهيم الرياضية تفارق، فتعبر البلدان، وإنما هي تباطن وتلازم فتكون لا محالة تحت أثر المساق.
ويقيم نوربرت إلياس ضربا من الجينالوجيا لتعارض هذين المفهومين، فيذهب إلى أن سنة 1919م كانت سنة إحياء هذا التعارض الذي عمر قرنا ونصف من جديد. وهي بالمناسبة سنة حرب بوشرت ضد ألمانيا باسم الحضارة وسنة حاجة ألمانيا إلى إعادة تأكيد ذاتها بعد معاهدة فرساي. لكن التعارض قديم يعود إلى القرن الثامن عشر: إذ يبدو أن الفيلسوف الألماني كانط كان أول من عبر عنه، سنة 1784م، تعبيرا صريحا بقوله: «لقد ثقفنا أنفسنا ثقافة رفيعة بالفن والعلوم، ولقد حضرنا أنفسنا حد الامتلاء لكي نمارس آداب السلوك ورسوم الكياسة الاجتماعية... ». ترى «من» يتكلم هنا؟ ومن هي هذه «النحن» التي تتحدث في هذا المقام؟ هو ذا ما رام نوربرت إلياس الحفر فيه بإقامة «جنيالوجيته» -نسابته- و «سوسيولوجيته» - تعبيره الاجتماعي.
ههنا التعارض بينKultur و Zivilisierheit بدي، لكن أساسه الخفي هو ما حاول نوربرت إلياس إقامة سوسيولوجية له. والذي عنده أن وراءه سجال الانتلجنسيا الألمانية الناشئة (الطبقة الوسطى المثقفة التي يمثلها كانط هنا) ضد عوائد وآداب الحاشية الحاكمة. فباسم الثقافة حاربت تلك تحضر هذه الذي لم تكن لتر فيه إلاَّ «نفاقا» و«تصنعا» و«رياء». ولما كانت هذه البورجوازية النامية ضعيفة غضة فقد احتمت بمجال الروح وبالكتاب وفاخرت بإنجازاتها العلمية والفنية وليس بقوة اقتصادية واجتماعية كانت تفتقد إليها. فما كان يهمها الاقتصاد آنذاك لا ولا السياسة وإنما شأن الروح Das rein Geistige؛ أي مجال الكتاب والعلم والدين والفن والفلسفة، مجال الاغتناء الروحي والفكري، مجال «تثقيف» الشخصية الفردية، وليس مجال الاقتصاد والاجتماع. فصير إلى التعبير عن تعارض اقتصادي واجتماعي وسياسي بمفاهيم فكرية وأخلاقية شأن: العمق والخفة، والصدق والمراءاة، والفضيلة الحقة والمداهنة...وتوحد هذا التعارض ذو الأصول الاجتماعية في التعارض بين مفهومي "الثقافة" و«الحضارة»(20). أكثر من هذا، صار الأمر إلى تعارض قومي بين «السمات القومية» و«السمات الكونية»، واستحال بذلك إلى أن صار هذا التعارض تعبيرا عن الوعي القومي الألماني -الثقافة- ضد الأمم الأخرى - الحضارة(21)..
على أنه حدث في القرن التاسع عشر، وبالذات عام 1870م، أن لما تقوت ألمانيا وبدأت تستعمر غيرها بدأت حدة التعارض بين المصطلحين تنمحي وتنطمس، وما عاد اصطلاح kultur إلاَّ مجالا خاصا أو شكلا متطورا منZivilisierheit. غير أن التعارض ما انمحى بالمرة وما انطمس الانطماس التام إلى الأبد. فقد صار شاهدا على ضرورة تنسيب فكرة مقدرة المفاهيم على ألا تضعن، على الدوام، وإنما أن ترحل أبد الدهر. كما صار شاهدا على مغامرة كلمتين بأعجب مغامرة تكون