مقال السوسيولوجي: نظرية العنف الرمزي عند بيير بورديو
منتدى الفلسفة وعلم الاجتماع:- مقال السوسيولوجي: نظرية العنف الرمزي عند بيير بورديو
بداية لا شك في أن التلفزيون أصبح يلعب دوراً أساسياً ومهماً في حياتنا
من خلال المتابعة اليومية لما يبث من خلاله من برامج وأخبار ومشاهدات مرغوب فيها وأخرى غير مرغوب فيها وما لبث وأن أطلق البعض على هذا الجهاز “بالضيف الاجباري” .
ومن غير المبالغ فيه أن نقول بأن التلفزيون يساهم بشكل مباشر أو غير مباشر في تربيتنا لاولادنا واعدادهم للمستقبل القادم و على هذا الصعيد أود أن أشير ألي سلسلة من من الاليات التي تثبت أن التلفزيون يمارس نوعاً من “العنف الرمزى” المفسد والمؤذي .
وأبرز مظاهر هذا العنف أن التلفزيون يملأ أوقات الناس بالأشياء غير الهامة و غير الضرورية وهو يستهلك زمنهم في قول أشياء تافهة تخفي في الحقيقة بالقدر نفسه الأشياء الثمينة , وبهذا المعني فان التلفزيون يسهم في تدمير الوعي حينما ينشر وعياً زائفاً أو يحجب المعلومات عبر لعبة اسميها “لعبة المنع بواسطة العرض” .
تبدو الأشياء أقل وضوحاً في التلفزيون أثناء عرضها وهنا وجه من وجوه التناقض : أشياء يتم اخفاؤها عن طريق عرضها أو “بواسطة عرض شئ آخر غير ذلك الذي يجب عرضه ” والطريف هنا أن الصورة التي يقدمها التلفزيون ويقوم بتضخيمها ويمنحها صفات درامية وتراجيدية , وانما يفعل ذلك باستخدام كلمات كبيرة فالكلمات المعتادة لا تثير دهشة أحد وبهذا تهيمن الكلمات علي الصورة فالصورة لاتعني شيئاً دون التفسير للذي يجب أن تتم قراءته .
ينطلق بورديو من فكرة أن التلفزيون يشكل راهناً أداة للقمع الرمزي (نظراً للمستوى الثقافي أو المعرفي المتدنِّي للمشاهدين الذين يميلون إلى تصديق ما يعرض عليهم بعامة). وهو يأمل في أن يتحول التلفزيون إلى أداة للديموقراطية المباشرة لو تم رفع المستوى العلمي للمشاهدين وتقوية استقلالية التلفزيون عبر إدراك العوامل التي تعمل على ضرب تلك الاستقلالية. و العوامل غير المرئية التي تُمارَس الرقابة من خلالها تجعل من التلفزيون أداة عظيمة لتثبيت النظام الرمزي (تواطؤ المتلقِّين والذين يمارسونه). وهكذا يغدو التلفزيون أداة لخلق الحقيقة وللتحكيم الاجتماعي والسياسي، وليس، كما يُدَّعى، أداة لتسجيل الواقع. وهو ليس ملائماً للتعبير عن الفكر أو الرأي؛ إذ يمنح أهمية للتفكير السريع وللغذاء الثقافي السريع المقترن بأفكار مسبقة. وحول هذا الموضوع يقدم بورديو أفكاراً للتحديد وللتحقق منها، بوصفها أموراً معقدة جداً لا يمكن معرفتها إلا من خلال عمل أمبيريقي مهم، ارتكازاً على ملاحظات من الواقع.
و غني عن البيان أن عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو كان مثقفا مشاكسا انخرط في الصراع الاجتماعي السياسي في فرنسا،و ترك بصمات واضحة على مشروع نقد العمل الإعلامي، والتلفزيوني خصوصاً.
فأن تكون صحافياً وتقرأ كتاب بيار بورديو «عن التلفزيون»، فهذا يعني أنك أدخلت نفسك طوعاً في محاكمة قاسية، وخصوصاً أنك ستشعر مع كل اتهام يطلق عليك، بأنها محاكمة عادلة. إذ أنه ليس قائماً على بحث علمي تحليلي بل «وصف فظ»، كما يعبر بورديو، لواقع العمل الصحافي وكواليس التلفزيون وعلاقات الصحافيين بعضهم ببعض، وبمختلف القوى الاجتماعية.
ينتقد بورديو في الكتاب «الحقل الصحافي» من الداخل والخارج: بدءاً من طريقة الحصول على الخبر ومعالجته، مروراًً بالنشرة الإخبارية التلفزيونية التي يصفها بـ«منتج غريب» يناسب الجميع، وصولاً إلى البرامج الحوارية «التمثيلية» التي تستضيف أشخاصاً لا علاقة لهم غالباً بالموضوع المطروح للنقاش، ولا يتساوون في معلوماتهم. «عندما تكتب صحيفة معنية عن كتاب، ستجد صحيفة ثانية نفسها مجبرة على عرض الكتاب ذاته، حتى لو كان سخيفاً. كذلك الأمر لدى الكتابة عن معرض فني أو مسرحية…».
يقدم بيار بورديو هذا المثل البسيط ليبرهن تشابه وسائل الإعلام في مضمونها، على رغم التعددية الظاهرة. هذا التشابه سببه دورة الخبر حول نفسه: ينشر في جريدة، فيتلقفه صحافي في مؤسسة إعلامية ثانية، ويتابعه مضيفاً إليه تفصيلاً صغيراً قد لا تكون له أي أهمية. وهو يفعل ذلك من دون أن يكلّف نفسه عناء البحث عن خبر آخر…
ويردّ بورديو هذا السلوك إلى «المنافسة» بين الصحافيين. منافسة تعزز حالة الطوارئ، وتجعلهم يأتون بخبر خاطئ أو يقدمونه بطريقة تسبب ذعراً: «أتمنى أن يسمع الصحافيون ما يقولونه، هم الذين يرمون كلماتهم بكل خفة، من دون أن يكون لديهم أدنى فكرة عن خطورة ما يقولونه، والمسؤوليات التي يجب عليهم تحملها… كلماتهم تثير الخوف والهواجس، وتؤدي في معظم الأحيان إلى تشكيل صور خاطئة عن الحقيقة».
التشابه رغم التعددية، تعزيز حالة الطوارئ وبث الأخبار الخاطئة، ليست إلا نقطة في بحر الانتقادات التي يعرضها بيار بورديو، وهي انتقادات قائمة على ملاحظات تفصيلية ليوميات العمل الصحافي وآلياته. يعرضها معترفاً بأنها تحتاج إلى بحث علمي يثبت ما يخلص إليه: التلفزيون وعدد كبير من الصحافيين، هم “معادون للثقافة”، ويمارسون «عنفاً رمزياً» على المشاهدين.
فالرجل يرى أن العمل التلفزيوني مبني على السرعة، لذلك ليس هو المكان الأفضل للتفكير. من هنا، يتم اللجوء في المقابلات المتلفزة إلى «مفكرين سريعين» (fast thinkers) يحملون أفكاراً مسبقة عن الموضوع المطروح، «ولا خوف من مشكلة في التلقي، لأن هذه الأفكار المسبقة يعرفها الجمهور الذي يحصل على وجبة FAST FOOD… ثقافية».
ويبني بورديو نظريته على تجربة شخصية استطاع خلالها اكتشاف عمل المقدّم غير المثقف: «شاركت أكثر من مرة في مقابلات، أعدت خلال طرح السؤال على نفسي، حتى أتمكن من مقاربة الموضوع الذي يرغب المذيع في مناقشته. كنت أكرر للمقدم «سؤالك مهم بالتأكيد، لكني أعتقد أنه في هذه الحالة هناك ما هو أهم منه»… وهو يكرّر شكواه من الصحافيين غير المثقفين الذين يذهبون لتغطية خبر معين، فيفاجأون برؤية أشياء غير مفاجئة أو العكس. فهم يسقطون رؤيتهم الخاصة على الحدث، علماً بأن علماء الاجتماع أنفسهم لا يستطيعون ادعاء ما يدعيه هؤلاء: «إن واحدة من أكبر المشاكل التي تعترض علماء الاجتماع، هي تجنبهم السقوط في أحد هذين الوهمين في معرض تحليلهم لظاهرة معينة: القول بأنها الأولى من نوعها، أو إنها تتكرر دائماً». وهذا ما يردده الصحافيون على الدوام «وهنا يكمن خطرهم، فهم غير مثقفين، ولا تعني لهم الظواهر الاجتماعية الحقيقية شيئاً». لكنهم رغم ذلك يمارسون تأثيراً كبيراً وسلطة مطلقة على مختلف الحقول الاجتماعية: السياسية والقضائية والنقابية وأحياناً على من هم أرفع مستوى منهم، وذلك بسبب احتكارهم لآليات إنتاج المعلومة ونشرها أو إضفاء الشرعية على الضيوف الذين يحظون بإطلالة متلفزة.
غير أن الصحافي ليس وحده المسؤول بل «الحقل الصحافي» بكامله. ويرفض بورديو أي محاولة لتحليل سلوك صحافي معين أو وسيلة إعلامية محددة، بعيداً من زملائهما، «لا يمكن أن نفهم ما الذي يحدث في TF1 بمجرد القول إن شركة BOUYGUES هي من يملكها. هذا سبب لكنه ليس وحيداً، يجب أن نأخذ في الاعتبار مجموعة العلاقات الموضوعية التي تؤسس الحقل الصحافي بكامله».
حين انتقد بورديو التلفزيون، كان يتحدث ضمن سلسلة محاضرات متلفزة نظمها آنذاك «كوليج دو فرانس». أي إنه استعمل بدوره شاشة التلفزيون، لكن ضمن شروط تناسبه لجهة اختيار الموضوع، وامتلاك الوقت الكافي لمناقشته. ولأنه بدأ محاضرته بالتأكيد على أن امتلاك المواطن للمعلومة هو الذي يتيح له ممارسة حقوقه الديمقراطية، فقد طالب بمحاربة الـAudimat (نسبة إقبال المشاهدين) الذي يعزز ثقافة الـ“فاست فود”. كما عبّر عن أمله بأن تنشأ، داخل الجسم الصحافي، علاقات بين الصحافيين تساعد في التخفيف من التأثير السلبي للأدوات التي يمتلكونها. وقدّم مثلاً: “في قضية خطف الأطفال (التي يُتّهم فيها المهاجرون غالباً بشكل أوتوماتيكي) يمكننا أن نتخيّل، أو
نحلم، أن يتفق الصحافيون على عدم استضافة زعماء سياسيين معروفين بمواقفهم المسبقة ضد الأجانب”.
يقول بيار بورديو في كتابه «التلفزيون وآليات التلاعب بالعقول»: «أحد المشاكل الكبرى التي يطرحها التلفزيون هي العلاقة بين التفكير والسرعة. هل يمكن التفكير أثناء اللهاث بسرعة؟ وهكذا حصل التلفزيون على مفكرين (على السريع)، عندما أعطى مجال الحديث لمفكرين أجبرهم على أن يفكروا بسرعة متزايدة. مفكرون يفكرون بأسرع من ظلهم».
مشكلة السرعة حولت العلاقة بين التلفزيون والصحافة إلى علاقة انتفاعية، الغلبة فيها حكماً للتلفزيون كونه الأوسع والأسرع انتشاراً. ففيما تعمل الصحافة بتأن زمني يستهلك على الأقل 24 ساعة بين تحضير المواد للنشر والطباعة، تدور عجلة البث التلفزيوني كالمطحنة في عملية محو وتسجيل يومي للذاكرة. فكل نشرة أخبار تمحو ما سبقها لتسجل أحداثاً جديدة، تتطلب مجموعة من البرامج المواكبة تحليلاً وتفسيراً. وتحت ضغط الوقت، لا مناص من اللجوء إلى الصحافة، سواء من جانب الاستعانة بالأفكار، أو في اختيار الأشخاص المناسبين لتحليل ما وراء الأخبار. فلا يمكن لأي معد برامج أن يبدأ يوم العمل من دون الاطلاع وبشكل آلي على عناوين الصحف والمقالات المكتوبة.
إن الموضوع الذي يعالجه بيير بورديو في هذا الكتاب يتعلق في مستواه المباشر بتحليل بنية و آليات أحد منتجات هذه التكنولوجيا الحديثة التي تعرف بتكنولوجيا الاتصالات والمعلومات، لكن الموضوع غير المباشر (لكنه رئيس وأساس!) هو علاقة الإيديولوجيا بهذه التكنولوجيا. إذا كان من الممكن اعتبار أن العلم محايدٌ، فإن استخدامات العلم وتطبيقاتِهِ أي التكنولوجيا ليست محايدة. فيما يتعلق بتكنولوجيا الاتصالات والمعلومات فإن التوظيف والمضمون الإيديولوجي لهذه التكنولوجيا يجد أوضح مثال له في الدور الذي يلعبه التلفزيون لا يقتصر الدور الخطير الذي يلعبه التلفزيون على التأثير المباشر على المشاهدين ولكن هذا التأثير يمتد كما يوضح بورديو في هذا الكتاب إلى مجالات الإنتاج الثقافي الأخرى وهو ما ينبّه إلى خطورته بشكل خاص. لقد كثر الحديث عن »نهاية الايديولوجيات« و»نهاية التاريخ«، كما تم الترويج لنظرية صموئيل هنتنجتون المعروفة »بصدام الحضارات« الخ. ولكن الشيء المثير للدهشة والتعجب أن هذه المقولات التي روِّج لها كثيراً في أوساط المثقفين ووسائل الإعلام خصوصاً بعد انهيار سور برلين والتحولات السريعة والعنيفة التي شهدتها دول شرق أوروبا، مروراً بحرب الخليج الأولى ثم أحداث الحادي عشر من سبتمبر وما تلاها من حرب واحتلال لأفغانستان والعراق، هي في حد ذاتها تعبير عن أيديولوجيا تدّعي
السيادة والانتصار على الأيديولوجيات الأخرى!. أيديولوجيا تعبّر عن نزعات عنصرية وفاشية جديدة تمثل تهديداً حقيقياً للإنجازات الرائعة التي حققها الفكر الإنساني عبر مسيرته الطويلة.
مما لا شك فيه أن المواجهات الأيديولوجية التي كانت سائدة طوال فترة الحرب الباردة قد انتهت بصورتها القديمة، أي المواجهة وجهاً لوجه وسيادة الخطاب الأيديولوجي المباشر. لكن التحول الجديد الذي طرأ خلال السنوات العشر الأخيرة من القرن المنصرم وحتى الآن هو انفراد ما يمكن أن نسميه بالأيديولوجيا الناعمة بموقع الصدارة في وسائل الإعلام المختلفة. »الأيديولوجيا الناعمة تتمثل فى تلك الجرعات اليومية بل اللحظية التى تبثها وسائل الاعلام »soft ideology«
الحديثة وكذلك الوسائط المتعددة
Multimedia وانتشار شبكة الانترنت على المستوى العالمي
.
هذه الجرعات تتغلغل وتنساب إلى عقول المشاهدين والقراء والمستمعين ومستخدمي الوسائط المتعددة والانترنت الخ. بهدوء وبلا ضجيج على عكس ما كان يتم في السابق. إن المجال مفتوح الآن لعمل دراسات على التوظيف والمضمون الأيديولوجي لكل هذه الوسائل والأدوات وهو ما يقدم له بورديو نموذجاً منهجياً في هذا الكتاب. إن طريقة التحليل التي يقدمها بورديو هنا يمكن تطبيقها على مجالات أخرى.
إن وسائل الاداعة و التلفزيون في الأنظمة الغير الديمقراطية تصنف ضمن إطار الأجهزة المحافظة التي تسعى إلى توفير هيمنة السلطة على الجمهور الواسع من خلال تمرير تقافة هجنة تسعى إلى تكريس ماهو قائم وتشكيل وعي يومي سادج لدى المتلقي وهدا هو صميم موضوع بورديو في كتاباته التي تنصب حول نقد البنية الوظيفية التقليدية في التلفزيون و التي يتم إخراجها بتخطيط من خبراء الداخلية/ الإعلام من داخل الكواليس و تمارس يوميا تحت عنوان إستراتيجية الإعلام في العهد الجديد.
المراجع
1. سلسلة عالم المعرفة عدد 44 إتجاهات نظرية في علم الإجتماع د. عبد الباسط عبد المعطي
2. ذ. العطري عبد الرحيم العلوم الاجتماعية و التحولات السياسية : في الحاجة إلى السؤال السوسيولوجي”
3. نفس المرجع السابق
4. صبحي درويش كاتب سوري
5. مدرسة إعادة إنتاج الطبقات عبدالله العبادي
6. شبل بدران،حسن البيلاوي:مرجع سابق،ص116.
7. سعاد جروس مقالات تتحول إلى «روبورتاجات مصورة»
8. محمد خضر كاتب صحفي
9. درويش الحلوج قراءة في التلفزيون وآليات التلاعب بالعقول
بالتوفيق للجميع
موقع وظائف للعرب في تونس والجزائر والمغرب العربي والخليج والشرق الاوسط واوروبا
من هنا
![]()