شركة نور سيتى
01-07-2013, 08:08 AM
العثمانيين ودورهم في بيع فلسطين إلى اليهود
من باع فلسطين إلى أوائل اليهود المتسللين ...؟
كنت أدرك من غير شك أو تردد الاهمية الاستثنائية للوثيقة العثمانية رقم Y.PRK.AZJ. 27/39 التي ترجمها ونشرها الاستاذ كمال خوجة، والمحفوظة في أرشيف الوثائق العثمانية لدى رئاسة الوزراء التركية، لكن لم يدر بخلدي، ولم يخطر ببالي قط أن القراءة المتأنية التي نشرتها تحت عنوان (قراءة متأنية في وثيقة الاستاذ كمال خوجة)، ستثير مثل ذلك الاهتمام غير العادي.
لذلك فقد رأيت من المفيد أن أعيد القراءة مرة أخرى، وأن أقوم بتوسيع البحث وأن أتوسع في نقل ونشر المزيد من المعلومات المتعلقة بالوثيقة المذكورة، وبموضوع المحاولات الاولى لنقل الاراضي الفلسطينية من خلال أوائل بائعي الأراضي الفلسطينية ألى أوائل المهاجرين اليهود، خلال العقود الثلاثة الأخيرة المشؤومة من القرن التاسع عشر.
أبدأ أولا بالترحم على السلطان عبد الحميد خان الثاني، الخليفة العثماني الذي تنبه للمخططات الصهيونية اليهودية منذ ولادتها، فتصدى لها بحكمة، ورفض بشدة كافة العروض المغرية، وأمر باتخاذ التدابير المشددة من أجل الحيلولة دون تحقيقها. وقد خرجت هذه الوثيقة إلى حيز الوجود لتثبت كيف تم انتهاك تلك التدابير من قبل حفنة من الموظفين الذين أعمتهم الرشوة وأعماهم الطمع وحب المال، فكانوا الجسر الذي عبر المهاجرون اليهود من خلاله خلسة وتحت جنح الظلام إلى أرض فلسطين.
عمليات التمهيد من أجل تأسيس دولة يهودية في فلسطين كانت قد بدأت بشكل رسمي في شهر تموز من عام 1882، وقد ترافقت بداية هذه العمليات مع المحاولات الاولى التي كان يقوم بها أثرياء يهود من أجل شراء أراض من العثمانيين في فلسطين، وقد اكتسبت هذه المحاولات بعدا جديدا بعد المبادرات التي قام بها الزعيم الصهيوني ثيودور هرتزل لدى السلطان العثماني والحكومة العثمانية أثناء زياراته الخمس التي قام بها تباعا إلى اسطنبول خلال الاعوام 1896-1902. لكن رد السلطان العثماني على تلك العروض المغرية ورفضه الشديد لها كان قاطعا، كما أنه لم يكتف بذلك، بل أرسل تهديده إلى ثيودور هرتزل من خلال صديق الأخير نيولنسكي (Newlinski)
"إذا كان السيد هرتزل صديقا لك فبلغه أن لا يقدم على خطوة أخرى في هذا الموضوع. فأنا لن أبيع ولو شبرا واحدا من الأرض. لأن هذا الوطن ليس ملكا لي بل هو ملك أمتي. لقد حصلت أمتي على هذا الوطن بدمائها. وقبل أن يأخذ منا هذا الوطن ويبتعد عنا، سوف نغرقه بدمائنا مرة ثانية. إن جنود كتائب سوريا وفلسطين قد سقطوا شهداء واحدا تلو الآخر في بليفنا (Blevna)، لقد استشهدوا عن آخرهم، وبقوا في ساحة القتال، ولم يعد أي واحد منهم. فالدولة العلية العثمانية ليست ملكا لي، وإنما هي ملك للعثمانيين. وأنا لن أعطي أي جزء منها إلى أي أحد. لندع اليهود يحتفظون بذهبهم، فإذا ما تمزقت إمبراطوريتي يمكنهم عندها الاستيلاء على فلسطين دون مقابل. لكن هذه البلاد يستحيل تقسيمها إلا على أشلائنا. وأنا لن أسمح أبدا بإجراء عملية جراحية على جسد حي."
لكن، وعلى الرغم من ذلك، فقد كان اليهود يكررون عرضهم بتسديد ديون الحكومة العثمانية مقابل فلسطين، بل ومقابل منحهم سنجق عكا ومدينة حيفا على الأقل. لكن المسؤولين العثمانيين الذين أبدوا استعدادهم لتقديم بعض الامتيازات الاقتصادية للمستثمرين اليهود، كانوا يرفضون بشدة بيع فلسطين لليهود، وكانوا يقولون بأنهم لن يفعلوا ذلك أبدا.
سفير الدولة العثمانية المعروف بمواقفه الوطنية علي فروح بك (Ali Ferruh Bey – Ali Farrouh)، قام بتاريخ 24 نيسان 1899 بالادلاء بتصريح إلى إحدى الصحف الأمريكية قال فيه: "ليس في نية حكومتنا أن تبيع أي جزء من البلاد العربية، حتى ولو ملئوا جيوبنا بملايين القطع الذهبية" وأضاف السفير علي فروح في نفس التصريح قائلا بأن قضية فلسطين ليست قضية اقتصادية، بل هي قضية سياسية، لذلك فلا علاقة لوزارة المالية بهذه القضية.
ولم يكتف السلطان عبد الحميد الثاني برفض عروض اليهود، لكنه قام في نفس الوقت باتخاذ التدابير الفعالة ضدهم، من أجل الحيلولة دون استيطانهم في فلسطين. كما أنه قام للسبب نفسه بمبادرات دبلوماسية لدى القوى العظمى، وحاول إعاقة صهينة اليهود، وأمر بوضع أنظمة لدخول البلاد، وبذل الجهود من أجل منع اليهود من الحصول على حماية أجنبية، كما أنه أصدر أوامره بمنع بيع الأراضي الفلسطينية إلى اليهود.
قام السلطان عبد الحميد الثاني بالاتصال مع الامبراطور الالماني وليم الثاني (Wilhelm II. – William II.)، وبين له أن مشروع هرتزل (الصهيونية) لا يتماشى مع مبدأ "وحدة الأراضي العثمانية والسيادة عليها"، الأمر الذي دفع ألمانيا التي أيدت الصهيونية في السابق، إلى التخلي عن موقفها وتوجهها هذا في السنوات الاولى من القرن العشرين. وعلى الرغم من قيام وزير الداخلية الروسي بليف (Plehve) بتوجيه خطاب إلى هرتزل في شهر آب عام 1903 يقول فيه "إن الحكومة الروسية تؤيد الصهيونية، طالما كان هدفها إقامة دولة مستقلة في فلسطين"، إلا أن الحكومة الروسية أيضا تناست وعدها هذا بعد مدة، وكفت عن تأييد الصهيونية. أما الحكومة الفرنسية فقد كانت منذ البداية ضد الصهيونية، لانها كانت تعتبر فلسطين جزءا من سوريا التي كانت تطمع في احتلالها واستعمارها منذ عقود، أما بريطانيا والولايات المتحدة فقد كانتا تقدمان أكبر دعم إلى الصهيونية.
اللوبي اليهودي كان يملك نفوذا كبيرا في أمريكا، لذلك فقد قام السلطان عبد الحميد الثاني بمحاولة من أجل ثني هذا اللوبي عن توجيه الدعم والتأييد إلى الصهيونية، وبواسطة زعيم المسلمين الامريكان في ذلك الوقت محمد ويب (Mohammad Webb) تمكن السلطان العثماني في عام 1898 من الوصول إلى إلى ريتشارد غوثيل (Richard Gottheil) زعيم اليهود الامريكان، ودعاه إلى التخلي عن الامال في (الاستيطان اليهودي في فلسطين). قامت الحكومة العثمانية بالاتصال مع الجماعات اليهودية الدينية والاصلاحية في أمريكا وروسيا بشكل خاص، محاولة افهامهم بأن إنشاء دولة يهودية مستقلة في فلسطين سوف يؤدي الى حرمانهم من كافة ممتلكاتهم في أمريكا وروسيا حيث يعيشون برفاهية، وسيؤدي إن تحقق ذلك إلى نفيهم إلى فلسطين الخالية تقريبا من الامكانيات المادية. وقد كان فقدان الاتحاد الصهيوني الامريكي للكثير من أعضائه بعد هذه المحاولات دليلا على مدى نجاعتها ونجاحها.
وقد قامت الحكومة العثمانية في تلك الفترة، باتخاذ تدابير جادة تمنع بشكل خاص دخول المهاجرين اليهود واستيطانهم في الأراضي العثمانية. في البداية قامت الحكومة العثمانية بتوجيه تعليماتها الى سفاراتها وممثلياتها في الخارج، وطلبت عدم منح التأشيرات للمشبوهين من اليهود. كانت الحكومة العثمانية تتابع عن قرب كافة الانشطة الصهيونية في اوروبا، لذلك كانت قوات الأمن العثمانية تقف بالمرصاد للمهاجرين اليهود الذين كانوا يدخلون البلاد سرا عن طريق مينائي حيفا ويافا بشكل خاص، وكانت تقوم بإعادة تسفيرهم إلى الحهات التي فدموا منها. وفي شهر تشرين الأول من عام 1882 قامت الحكومة العثمانية بفرض حظر على دخول اليهود الى فلسطين باستثناء القادمين لزيارة الاماكن المقدسة، لكن الصهاينة تمكنوا من التخفي بشكل زوار للاماكن المقدسة ونجحوا في التسلل الى فلسطين والبقاء فيها.
لذلك فقد قامت وزارة الداخلية العثمانية عام 1884 بوضع حظر على دخول اليهود إلى فلسطين قبل حصولهم على تأشيرات من السفارات العثمانية، حتى لو كانت زيارتهم بدعوى زيارة الأماكن المقدسة. وفي عام 1887 تم تحديد إقامة زوار الأماكن المقدسة من اليهود بشهر واحد. ومن أجل ضمان مغادرة الزوار اليهود للبلاد، كانت السلطات العثمانية تستوفي منهم عند دخولهم مبلغا كبيرا كتأمين مسترد. وفي هذه المرة حاول اليهود الدخول الى الاراضي العثمانية استثاءا كمواطنين من الدول العظمى. لكن في شهر آب عام 1898 تم إغلاق أبواب فلسطين بشكل كامل أمام كافة اليهود بغض النظر عن الدولة التي ينتمون إليها.
وبموجب "نظام شروط الدخول" المنشور بتاريخ 21 تشرين الثاني 1900 ، تم الشروع في تطبيق نظام "جواز السفر الأحمر" من أجل منع دخول الصهاينة إلى فلسطين. وحينما حاول بعض اليهود الامريكين والبريطانيين الذين كانوا يقيمون في البلاد العثمانية الحصول على بعض الحقوق والامتيازات الخاصة بهم، تم اجبارهم على المغادرة ليعيشوا في البلاد التي يحملون جنسياتها.
لم يكن "قانون الاراضي العثمانية" الصادر عام 1867 يمنع قيام اليهود بشراء أراض في فلسطين. وعلى الرغم من أن القانون الجديد الصادر بتاريخ 5 آذار 1883 كان يمنع الصهاينة الأجانب من شراء الأموال غير المنقولة في الدولة العثمانية، إلا أنه لم بأت بأي حكم يمنع اليهود من مواطني الدولة العثمانية من فعل ذلك. لهذا السبب، قامت المنظمات الصهيونية بدفع الاموال إلى اليهود المحليين، وأمنت للصهاينة شراء مساحات كبيرة من أراضي المنطقة.
وهكذا تم إنشاء بعض التجمعات السكنية الصهيونية، كما سوف نرى من خلال بعض الوثائق الهامة لاحقا، كيف قام بعض السكان وبعض المتنفذين المحليين في تلك السنوات بأعمال الوساطة في بيع قسم لا يستهان به من الاراضي الفلسطينية إلى اليهود حرصا وطمعا.
وبناءا على ورود الشكاوى فيما يتعلق بهذا الموضوع، أضطرت حكومة السلطان عبد الحميد الثاني في خريف عام 1892 إلى اتخاذ سلسلة من التدابير الجديدة. حيث جرى التعميم على دوائر الطابو المحلية وعلى السكان بمنع كافة اليهود المحليين واليهود الاجانب من شراء الاموال غير المنقولة، وفي تلك السنوات أصبح بيع الاراضي العثمانية إلى الأجانب يعتبر "خيانة للوطن وخيانة للدين تستوجب غضب الله وعقابه". لقد أصبح بيع الاراضي للاجانب وقيام الارساليات التبشيرية ببناء المدارس والمستشفيات أمورا تتطلب موافقة وإرادة خاصة من السلطان العثماني. أما بالنسبة إلى العرب الفلسطينيين المضطرين إلى بيع أراضيهم، فقد أبدى السلطان عبد الحميد الثاني استعداده واستعداد حكومته لشراء تلك الاراضي وضمها الى أموال الخزينة الخاصة.
كان التقرير المشار إليه بأعلاه والمكتوب من قبل ثلاثة مسؤولين فلسطينيين والمرسل بتاريخ 15 آب 1893 يشرح الوقائع وأعمال الخيانة التي كانت تجري في فلسطين بدقة متناهية وبتفصيل عجيب. نعم، فهذا التقرير المكون من صفحتين والذي كتبه صبحي بك (المدير السابق لناحية الشعراوية الشرقية في منطقة البلقاء وهو من أهالي بيروت)، وسعيد اسحق محمد (المدير السابق للريجي في سنجق البلقاء وهو من أهالي حيفا)، ومحمد توفيق السيد (المساعد السابق للمدعي العام في عكا وهو من أهالي مدينة نابلس)، دليل إثبات يفضح بالتفصيل العملاء الذين كانوا وراء تأمين قاعدة الانطلاق للغزاة الصهاينة، وكبف كان ذلك.
ويقدم هذا التقرير عرضا موثقا بالارقام والاسماء عن التصرفات والتحركات والأعمال المشبوهة وغير القانونية التي كان يقوم بها بعض المسؤولين في قضاء حيفا، التابع للواء عكا في ذلك الوقت، وعن قيامهم بإدخال المهاجرين اليهود الروس والرومانيين، وتمليكهم الاراضي، وتوطينهم وإسكانهم في الاراضي العثمانية عموما، وفي فلسطين على وجه الحصوص، على الرغم من وجود إرادة سلطانية تمنع هذه الامر وبشكل قطعي.
ويبدأ التقرير بالاشارة الى ما حدث قبل ذلك في عام 1306 شرقية (1890 ميلادية)، حين قام اثنان من اليهود الروس هما موسى خانكر وماير زبلون من رجال البارون هيرش (Hirsch) والمقيمان في بلدتي يافا وحيفا، بالترتيب والاتفاق مع متصرف عكا صادق باشا (عندما كان قائم مقام ومتصرفا هناك)، ومع قائم مقام حيفا السابق مصطفى القنواتي، والقائم مقام الحالي (في ذلك الوقت) أحمد شكري، ومفتي عكا علي أفندي، ورئيس بلدية حيفا مصطفى أفندي، وعضو مجلس الإدارة نجيب أفندي، حيث قام هؤلاء جميعا بترتيب إدخال واستقبال مائة وأربعين عائلة يهودية قادمة من روسيا في قضاء حيفا، وقاموا بترتيب بيع الأراضي الواقعة في الخضيرة ودردارة والنفيعات، والتي كان يملكها والي أضنة السابق شاكر باشا (شقيق المتصرف المشار إليه)، وسليم نصر الله الخوري (من أهالي جبل لبنان)، إلى اليهود المذكورين مقابل ثمانية عشر ألف ليرة ، مع إعطاء الموظفين المذكورين ألفي ليرة مقابل تعاونهم لتحقيق ذلك. وتم بعد ذلك إنزال اليهود المذكورين ليلا من السفينة إلى الساحل، تحت إشراف مأمور البوليس في حيفا عزيز، ومأمور الضابطة اليوزباشي علي آغا، وتم توزيعهم في نواحي القضاء. ثم قام رئيس بلدية حيفا مصطفى أفندي (من دون أن تكون له أية صلاحية، ورغم علمه بأن ألامر يتطلب إرادة سلطانية) بتنظيم رخص مزورة بتاريخ قديم، وإنشاء مائة وأربعين منزل على الأراضي المذكورة، وتحويلها إلى قرية، وإسكان اليهود فيها، وتم تنظيم سجل ضريبي لهؤلاء اليهود قبل أن يكون هناك أي شيء، كما تم إعطاؤهم صفة رعايا الدولة العثمانية، لكي يبدو الامر وكأنهم كانوا يقيمون في تلك القرية منذ القدم.
ويضيف التقرير بأن التزوير الحاصل لم يتوقف عند ذلك الحد، بل إن الامر قد وصل بالمسؤولين المذكورين إلى حد الادعاء بأن هؤلاء اليهود كانوا من أتباع الدولة العثمانية، وأنهم قد ولدوا في قضائي صفد وطبريا، وأنهم كانوا يقيمون في القرية المعروفة بمزرعة الخضيرة، وأنهم لم يكونوا مسجلين في سجلات النفوس، حيث نظمت بحقهم معاملة المكتومين (المنسيين أو البدون)، مقابل تغريم كل واحد قادر على الدفع منهم مجيدي أبيض واحد ( أي ست مجيديات) كغرامة تأخر في التسجيل، بينما اعفي من هذه الغرامة من ادعوا منهم عدم مقدرتهم على الدفع، وقد أبدى كانبوا الرسالة استغرابهم من اكتمال تلك المعاملة بتلك السرعة وخلال يوم واحد، حيث اكتسب هؤلاء المهاجرون اليهود الجدد صفة قدماء الأهالي بين ليلة وضحاها.
وتعيد الرسالة التأكيد على قيام وكيل شاكر باشا المذكور، ومفتي عكا علي أفندي، وسليم نصر الله الخوري من جبل لبنان بقبض مبلغ ثمانية عشر ألف ليرة قيمة بيع تلك الأراضي، دون أي اعتبار لمصالح الأمة والوطن، ولمجرد تأمين أسباب الراحة لهؤلاء اليهود الذين طردوا وأبعدوا من الدول الأجنبية. وأن عمليات إنزال المهاجرين اليهود كانت تتم كلما مرت سفينة في ميناء حيفا.
وتكشف هذه الرسالة في شهادة فريدة للتاريخ، عن العمليات الملتوية التي واكبت سيطرة المهاجرين اليهود على منطقة قرية زمارين الفلسطينية وما حولها، فتؤكد وقوع القرية في ذلك الوقت تحت سيطرة البارون روتشيلد، وأنه أصبح بطريقة ما مالكا لها، وأن في القرية سبعمائة بيت يعود معظمها لليهود. وتبين الرسالة أن القرية قد تم بيعها لليهود بطريقة مشبوهة، إثر صدور إعلام شرعي بوجوب تسجيل القرية في دفتر الشواغر، بعد أن مات مالكها الأصلي، والذي لم يكن له ورثة شرعيون. كما تذكر الرسالة تفصيلات هامة عن تمليك القرى المحيطة بقرية زمارين والحاقها بها وهي: شيفيا وأم التوت وأم الجمال، وتذكر الرسالة أيضا أن صادق باشا قد باع الى اليهود أراض خربة لا تتعدى قيمتها ألفي قرش مقابل ألفي ليرة. كما تذكر الرسالة الوثيقة أن تلاعبا مشبوها آخر رافق عملية بيع الأراضي الهامة على الساحل بين حيفا ويافا والمعروفة بخشم الزرقة، والتي تزيد مساحتها عن ثلاثين ألف دونم، حيث بيعت الى يهود زمارين على اعتبار أنها خمسة آلاف دونم فقط، وبسعر ثلاثة قروش للدونم، مع أن سعر الدونم الواحد في ذلك الوقت كان يبلغ ليرة واحدة ...!
ويكشف كاتبوا هذا التقرير في جانب هام آخر منه الكيفية التي قامت بها بعض الارساليات التبشيرية باستملاك بعض أراضي المنطقة، ويتحدثون عن عمليات التلاعب والتحايل التي تمت في تمليك معظم أراضي جبل الكرمل، مركزين على أهميته بالنسبة للدولة العثمانية، ويذكرون بأن القسم الأعظم (أكثر من خمسة عشر ألف دونم) من أراضي هذا الجبل الشهير قد تم بيعه (بالحيل وبالطرق الملتوية) إلى رهبان دير الكرمل الفرنسيين من قبل رئيس البلدية مصطفى الخليل، وعضو الإدارة نجيب الياسين، وأن (عشرة آلاف دونم) أخرى قد تم بيعها بطرق مشابهة، وبسعر منخفض أيضا، الى بعض الرهبان الآخرين من رعايا الدولة الالمانية، وأن القنصل البريطاني في حيفا في ذلك الوقت المدعو مستر سميث قد توسط في تمليك (خمسة آلاف دونم) إلى سيدة بريطانية (The British Lady) مقابل سكوتها على بيع تلك الأراضي إلى الأجانب الآخرين، وأنه قد تم بعد ذلك إنشاء مبان وكنائس ضخمة على تلك الأراضي.
ولم يهمل كاتبوا الرسالة الاشارة الى القضية العامة التي بادر متصرف عكا زيوار باشا إلى رفعها، في عهد رئيس محكمة البداية في حيفا محي الدين سلهب الطرابلسي، ضد الأجانب المعنيين، مطالبا باستعادة تلك الأراضي، وقد نوه كاتبوا الرسالة بأن تلك القضية كادت أن تحسم للصالح العام، لولا ورود برقية من سلطات أعلى بتعطيل كافة المعاملات المتعلقة بهذه القضية، مع الأمر بنقل المرحوم زيوار باشا إلى القلعة السلطانية (جناق قلعة)، وتعيينه هناك، ويتابع كاتبوا الرسالة قائلين (وبذلك أصبحت شواطئ البحر وجبل الكرمل وتلك الأراضي والمناطق المهمة التي تفتدى كل حفنة من ترابها بالروح بيد الغاصبين الأجانب بدعوى التقادم).
أما الجزء الأخير والهام أيضا من هذا التقرير، فيشير إلى الدور البهائي في هذه اللعبة، وإلى النشاطات التي كان يقوم بها (الإيراني عباس المنفي حاليا في عكا) ويقصد به الزعيم البهائي عباس افندي (الذي يدعى أيضا بالغصن الاعظم أو عبد البهاء)، ويقول التقرير أن عباس هذا، كان يحقق كل شيء يريده بفضل ثروته ونفوذه، بالتفاهم مع رئيس بلدية حيفا مصطفى، وعضو المحكمة نجيب، وأنه كان يقوم وعملاؤه بسلب واغتصاب أراضي العاجزين والفقراء من الأهالي، بأثمان بخسة، ليقوموا بعد ذلك بتهيئتها، وبيعها بأثمان فاحشة إلى اليهود والأجانب الآخرين، من أجل تحقيق مصالحهم الشخصية.
أما هذا العباس (السمسار الأعظم) الذي أنعم عليه البريطانيون بلقب (سير) نظير خدماته الجلى التي فضحتها الرسالة الوثيقة، فيبدو أنه قد خص نفسه بقطعة كبيرة من الأرض، تمتد من ساحل البحر الأبيض المتوسط وحتى قمة جبل الكرمل في حيفا، حيث تم دفنه هناك بعد وفاته، وبني له ضريح ضخم ذو قبة ذهبية صفراء، أطلقوا عليها اسم (قبة عباس)، كما أن أتباعه البهائيون قاموا ببناء المقر والمعبد الرئيسي للديانة البهائية في نفس الموقع. وتعتبر الحديقة المحيطة بذلك المعبد المشيد على الاراضي المغتصبة من الفلسطينيين، واحدة من اجمل الحدائق في العالم.
ويصف التقرير في ختامه، كيف تمكن المهاجرون اليهود بفضل المال من السيطرة على المتنفذين في ذلك الوقت، وكيف أصبحوا (مرعيو الخاطر) ويحسب لهم ألف حساب، لدرجة أنهم أصبحوا يتحرشون بالنساء ويضايقون الأهالي المسلمين في القرى المجاورة ويتسلطون عليهم، ويدلل التقرير على ذلك بذكر ما تعرض له علي بك الشركسي المدير السايق لناحية قيصاري (قيسارية) من قبل يهود زمارين، حين توجه إلى هناك من أجل التحقيق، بعد ورود اخبارية عن قيام اليهود بسك وتزييف النقود العثمانية المعدنية (الاقجه)، حيث قام اليهود بضرب المدير المذكور وإهانته، وبلغ بهم الأمر إلى حد التسبب ومن خلال بعض الوسطاء في عزله عن وظيفته، ويبين التقرير كذلك أن هذا التراخي من قبل بعض المسؤولين المحليين مع المهاجرين اليهود، جعل هؤلاء يتجرأون ويقومون بإرهاب من يعارضهم من العرب وحبسهم وتعذيبهم، ناهيك عن قيامهم في نفس الوقت ببناء المدارس السرية وتخزين مختلف أنواع الأسلحة والذخائر...!
من باع فلسطين إلى أوائل اليهود المتسللين ...؟
كنت أدرك من غير شك أو تردد الاهمية الاستثنائية للوثيقة العثمانية رقم Y.PRK.AZJ. 27/39 التي ترجمها ونشرها الاستاذ كمال خوجة، والمحفوظة في أرشيف الوثائق العثمانية لدى رئاسة الوزراء التركية، لكن لم يدر بخلدي، ولم يخطر ببالي قط أن القراءة المتأنية التي نشرتها تحت عنوان (قراءة متأنية في وثيقة الاستاذ كمال خوجة)، ستثير مثل ذلك الاهتمام غير العادي.
لذلك فقد رأيت من المفيد أن أعيد القراءة مرة أخرى، وأن أقوم بتوسيع البحث وأن أتوسع في نقل ونشر المزيد من المعلومات المتعلقة بالوثيقة المذكورة، وبموضوع المحاولات الاولى لنقل الاراضي الفلسطينية من خلال أوائل بائعي الأراضي الفلسطينية ألى أوائل المهاجرين اليهود، خلال العقود الثلاثة الأخيرة المشؤومة من القرن التاسع عشر.
أبدأ أولا بالترحم على السلطان عبد الحميد خان الثاني، الخليفة العثماني الذي تنبه للمخططات الصهيونية اليهودية منذ ولادتها، فتصدى لها بحكمة، ورفض بشدة كافة العروض المغرية، وأمر باتخاذ التدابير المشددة من أجل الحيلولة دون تحقيقها. وقد خرجت هذه الوثيقة إلى حيز الوجود لتثبت كيف تم انتهاك تلك التدابير من قبل حفنة من الموظفين الذين أعمتهم الرشوة وأعماهم الطمع وحب المال، فكانوا الجسر الذي عبر المهاجرون اليهود من خلاله خلسة وتحت جنح الظلام إلى أرض فلسطين.
عمليات التمهيد من أجل تأسيس دولة يهودية في فلسطين كانت قد بدأت بشكل رسمي في شهر تموز من عام 1882، وقد ترافقت بداية هذه العمليات مع المحاولات الاولى التي كان يقوم بها أثرياء يهود من أجل شراء أراض من العثمانيين في فلسطين، وقد اكتسبت هذه المحاولات بعدا جديدا بعد المبادرات التي قام بها الزعيم الصهيوني ثيودور هرتزل لدى السلطان العثماني والحكومة العثمانية أثناء زياراته الخمس التي قام بها تباعا إلى اسطنبول خلال الاعوام 1896-1902. لكن رد السلطان العثماني على تلك العروض المغرية ورفضه الشديد لها كان قاطعا، كما أنه لم يكتف بذلك، بل أرسل تهديده إلى ثيودور هرتزل من خلال صديق الأخير نيولنسكي (Newlinski)
"إذا كان السيد هرتزل صديقا لك فبلغه أن لا يقدم على خطوة أخرى في هذا الموضوع. فأنا لن أبيع ولو شبرا واحدا من الأرض. لأن هذا الوطن ليس ملكا لي بل هو ملك أمتي. لقد حصلت أمتي على هذا الوطن بدمائها. وقبل أن يأخذ منا هذا الوطن ويبتعد عنا، سوف نغرقه بدمائنا مرة ثانية. إن جنود كتائب سوريا وفلسطين قد سقطوا شهداء واحدا تلو الآخر في بليفنا (Blevna)، لقد استشهدوا عن آخرهم، وبقوا في ساحة القتال، ولم يعد أي واحد منهم. فالدولة العلية العثمانية ليست ملكا لي، وإنما هي ملك للعثمانيين. وأنا لن أعطي أي جزء منها إلى أي أحد. لندع اليهود يحتفظون بذهبهم، فإذا ما تمزقت إمبراطوريتي يمكنهم عندها الاستيلاء على فلسطين دون مقابل. لكن هذه البلاد يستحيل تقسيمها إلا على أشلائنا. وأنا لن أسمح أبدا بإجراء عملية جراحية على جسد حي."
لكن، وعلى الرغم من ذلك، فقد كان اليهود يكررون عرضهم بتسديد ديون الحكومة العثمانية مقابل فلسطين، بل ومقابل منحهم سنجق عكا ومدينة حيفا على الأقل. لكن المسؤولين العثمانيين الذين أبدوا استعدادهم لتقديم بعض الامتيازات الاقتصادية للمستثمرين اليهود، كانوا يرفضون بشدة بيع فلسطين لليهود، وكانوا يقولون بأنهم لن يفعلوا ذلك أبدا.
سفير الدولة العثمانية المعروف بمواقفه الوطنية علي فروح بك (Ali Ferruh Bey – Ali Farrouh)، قام بتاريخ 24 نيسان 1899 بالادلاء بتصريح إلى إحدى الصحف الأمريكية قال فيه: "ليس في نية حكومتنا أن تبيع أي جزء من البلاد العربية، حتى ولو ملئوا جيوبنا بملايين القطع الذهبية" وأضاف السفير علي فروح في نفس التصريح قائلا بأن قضية فلسطين ليست قضية اقتصادية، بل هي قضية سياسية، لذلك فلا علاقة لوزارة المالية بهذه القضية.
ولم يكتف السلطان عبد الحميد الثاني برفض عروض اليهود، لكنه قام في نفس الوقت باتخاذ التدابير الفعالة ضدهم، من أجل الحيلولة دون استيطانهم في فلسطين. كما أنه قام للسبب نفسه بمبادرات دبلوماسية لدى القوى العظمى، وحاول إعاقة صهينة اليهود، وأمر بوضع أنظمة لدخول البلاد، وبذل الجهود من أجل منع اليهود من الحصول على حماية أجنبية، كما أنه أصدر أوامره بمنع بيع الأراضي الفلسطينية إلى اليهود.
قام السلطان عبد الحميد الثاني بالاتصال مع الامبراطور الالماني وليم الثاني (Wilhelm II. – William II.)، وبين له أن مشروع هرتزل (الصهيونية) لا يتماشى مع مبدأ "وحدة الأراضي العثمانية والسيادة عليها"، الأمر الذي دفع ألمانيا التي أيدت الصهيونية في السابق، إلى التخلي عن موقفها وتوجهها هذا في السنوات الاولى من القرن العشرين. وعلى الرغم من قيام وزير الداخلية الروسي بليف (Plehve) بتوجيه خطاب إلى هرتزل في شهر آب عام 1903 يقول فيه "إن الحكومة الروسية تؤيد الصهيونية، طالما كان هدفها إقامة دولة مستقلة في فلسطين"، إلا أن الحكومة الروسية أيضا تناست وعدها هذا بعد مدة، وكفت عن تأييد الصهيونية. أما الحكومة الفرنسية فقد كانت منذ البداية ضد الصهيونية، لانها كانت تعتبر فلسطين جزءا من سوريا التي كانت تطمع في احتلالها واستعمارها منذ عقود، أما بريطانيا والولايات المتحدة فقد كانتا تقدمان أكبر دعم إلى الصهيونية.
اللوبي اليهودي كان يملك نفوذا كبيرا في أمريكا، لذلك فقد قام السلطان عبد الحميد الثاني بمحاولة من أجل ثني هذا اللوبي عن توجيه الدعم والتأييد إلى الصهيونية، وبواسطة زعيم المسلمين الامريكان في ذلك الوقت محمد ويب (Mohammad Webb) تمكن السلطان العثماني في عام 1898 من الوصول إلى إلى ريتشارد غوثيل (Richard Gottheil) زعيم اليهود الامريكان، ودعاه إلى التخلي عن الامال في (الاستيطان اليهودي في فلسطين). قامت الحكومة العثمانية بالاتصال مع الجماعات اليهودية الدينية والاصلاحية في أمريكا وروسيا بشكل خاص، محاولة افهامهم بأن إنشاء دولة يهودية مستقلة في فلسطين سوف يؤدي الى حرمانهم من كافة ممتلكاتهم في أمريكا وروسيا حيث يعيشون برفاهية، وسيؤدي إن تحقق ذلك إلى نفيهم إلى فلسطين الخالية تقريبا من الامكانيات المادية. وقد كان فقدان الاتحاد الصهيوني الامريكي للكثير من أعضائه بعد هذه المحاولات دليلا على مدى نجاعتها ونجاحها.
وقد قامت الحكومة العثمانية في تلك الفترة، باتخاذ تدابير جادة تمنع بشكل خاص دخول المهاجرين اليهود واستيطانهم في الأراضي العثمانية. في البداية قامت الحكومة العثمانية بتوجيه تعليماتها الى سفاراتها وممثلياتها في الخارج، وطلبت عدم منح التأشيرات للمشبوهين من اليهود. كانت الحكومة العثمانية تتابع عن قرب كافة الانشطة الصهيونية في اوروبا، لذلك كانت قوات الأمن العثمانية تقف بالمرصاد للمهاجرين اليهود الذين كانوا يدخلون البلاد سرا عن طريق مينائي حيفا ويافا بشكل خاص، وكانت تقوم بإعادة تسفيرهم إلى الحهات التي فدموا منها. وفي شهر تشرين الأول من عام 1882 قامت الحكومة العثمانية بفرض حظر على دخول اليهود الى فلسطين باستثناء القادمين لزيارة الاماكن المقدسة، لكن الصهاينة تمكنوا من التخفي بشكل زوار للاماكن المقدسة ونجحوا في التسلل الى فلسطين والبقاء فيها.
لذلك فقد قامت وزارة الداخلية العثمانية عام 1884 بوضع حظر على دخول اليهود إلى فلسطين قبل حصولهم على تأشيرات من السفارات العثمانية، حتى لو كانت زيارتهم بدعوى زيارة الأماكن المقدسة. وفي عام 1887 تم تحديد إقامة زوار الأماكن المقدسة من اليهود بشهر واحد. ومن أجل ضمان مغادرة الزوار اليهود للبلاد، كانت السلطات العثمانية تستوفي منهم عند دخولهم مبلغا كبيرا كتأمين مسترد. وفي هذه المرة حاول اليهود الدخول الى الاراضي العثمانية استثاءا كمواطنين من الدول العظمى. لكن في شهر آب عام 1898 تم إغلاق أبواب فلسطين بشكل كامل أمام كافة اليهود بغض النظر عن الدولة التي ينتمون إليها.
وبموجب "نظام شروط الدخول" المنشور بتاريخ 21 تشرين الثاني 1900 ، تم الشروع في تطبيق نظام "جواز السفر الأحمر" من أجل منع دخول الصهاينة إلى فلسطين. وحينما حاول بعض اليهود الامريكين والبريطانيين الذين كانوا يقيمون في البلاد العثمانية الحصول على بعض الحقوق والامتيازات الخاصة بهم، تم اجبارهم على المغادرة ليعيشوا في البلاد التي يحملون جنسياتها.
لم يكن "قانون الاراضي العثمانية" الصادر عام 1867 يمنع قيام اليهود بشراء أراض في فلسطين. وعلى الرغم من أن القانون الجديد الصادر بتاريخ 5 آذار 1883 كان يمنع الصهاينة الأجانب من شراء الأموال غير المنقولة في الدولة العثمانية، إلا أنه لم بأت بأي حكم يمنع اليهود من مواطني الدولة العثمانية من فعل ذلك. لهذا السبب، قامت المنظمات الصهيونية بدفع الاموال إلى اليهود المحليين، وأمنت للصهاينة شراء مساحات كبيرة من أراضي المنطقة.
وهكذا تم إنشاء بعض التجمعات السكنية الصهيونية، كما سوف نرى من خلال بعض الوثائق الهامة لاحقا، كيف قام بعض السكان وبعض المتنفذين المحليين في تلك السنوات بأعمال الوساطة في بيع قسم لا يستهان به من الاراضي الفلسطينية إلى اليهود حرصا وطمعا.
وبناءا على ورود الشكاوى فيما يتعلق بهذا الموضوع، أضطرت حكومة السلطان عبد الحميد الثاني في خريف عام 1892 إلى اتخاذ سلسلة من التدابير الجديدة. حيث جرى التعميم على دوائر الطابو المحلية وعلى السكان بمنع كافة اليهود المحليين واليهود الاجانب من شراء الاموال غير المنقولة، وفي تلك السنوات أصبح بيع الاراضي العثمانية إلى الأجانب يعتبر "خيانة للوطن وخيانة للدين تستوجب غضب الله وعقابه". لقد أصبح بيع الاراضي للاجانب وقيام الارساليات التبشيرية ببناء المدارس والمستشفيات أمورا تتطلب موافقة وإرادة خاصة من السلطان العثماني. أما بالنسبة إلى العرب الفلسطينيين المضطرين إلى بيع أراضيهم، فقد أبدى السلطان عبد الحميد الثاني استعداده واستعداد حكومته لشراء تلك الاراضي وضمها الى أموال الخزينة الخاصة.
كان التقرير المشار إليه بأعلاه والمكتوب من قبل ثلاثة مسؤولين فلسطينيين والمرسل بتاريخ 15 آب 1893 يشرح الوقائع وأعمال الخيانة التي كانت تجري في فلسطين بدقة متناهية وبتفصيل عجيب. نعم، فهذا التقرير المكون من صفحتين والذي كتبه صبحي بك (المدير السابق لناحية الشعراوية الشرقية في منطقة البلقاء وهو من أهالي بيروت)، وسعيد اسحق محمد (المدير السابق للريجي في سنجق البلقاء وهو من أهالي حيفا)، ومحمد توفيق السيد (المساعد السابق للمدعي العام في عكا وهو من أهالي مدينة نابلس)، دليل إثبات يفضح بالتفصيل العملاء الذين كانوا وراء تأمين قاعدة الانطلاق للغزاة الصهاينة، وكبف كان ذلك.
ويقدم هذا التقرير عرضا موثقا بالارقام والاسماء عن التصرفات والتحركات والأعمال المشبوهة وغير القانونية التي كان يقوم بها بعض المسؤولين في قضاء حيفا، التابع للواء عكا في ذلك الوقت، وعن قيامهم بإدخال المهاجرين اليهود الروس والرومانيين، وتمليكهم الاراضي، وتوطينهم وإسكانهم في الاراضي العثمانية عموما، وفي فلسطين على وجه الحصوص، على الرغم من وجود إرادة سلطانية تمنع هذه الامر وبشكل قطعي.
ويبدأ التقرير بالاشارة الى ما حدث قبل ذلك في عام 1306 شرقية (1890 ميلادية)، حين قام اثنان من اليهود الروس هما موسى خانكر وماير زبلون من رجال البارون هيرش (Hirsch) والمقيمان في بلدتي يافا وحيفا، بالترتيب والاتفاق مع متصرف عكا صادق باشا (عندما كان قائم مقام ومتصرفا هناك)، ومع قائم مقام حيفا السابق مصطفى القنواتي، والقائم مقام الحالي (في ذلك الوقت) أحمد شكري، ومفتي عكا علي أفندي، ورئيس بلدية حيفا مصطفى أفندي، وعضو مجلس الإدارة نجيب أفندي، حيث قام هؤلاء جميعا بترتيب إدخال واستقبال مائة وأربعين عائلة يهودية قادمة من روسيا في قضاء حيفا، وقاموا بترتيب بيع الأراضي الواقعة في الخضيرة ودردارة والنفيعات، والتي كان يملكها والي أضنة السابق شاكر باشا (شقيق المتصرف المشار إليه)، وسليم نصر الله الخوري (من أهالي جبل لبنان)، إلى اليهود المذكورين مقابل ثمانية عشر ألف ليرة ، مع إعطاء الموظفين المذكورين ألفي ليرة مقابل تعاونهم لتحقيق ذلك. وتم بعد ذلك إنزال اليهود المذكورين ليلا من السفينة إلى الساحل، تحت إشراف مأمور البوليس في حيفا عزيز، ومأمور الضابطة اليوزباشي علي آغا، وتم توزيعهم في نواحي القضاء. ثم قام رئيس بلدية حيفا مصطفى أفندي (من دون أن تكون له أية صلاحية، ورغم علمه بأن ألامر يتطلب إرادة سلطانية) بتنظيم رخص مزورة بتاريخ قديم، وإنشاء مائة وأربعين منزل على الأراضي المذكورة، وتحويلها إلى قرية، وإسكان اليهود فيها، وتم تنظيم سجل ضريبي لهؤلاء اليهود قبل أن يكون هناك أي شيء، كما تم إعطاؤهم صفة رعايا الدولة العثمانية، لكي يبدو الامر وكأنهم كانوا يقيمون في تلك القرية منذ القدم.
ويضيف التقرير بأن التزوير الحاصل لم يتوقف عند ذلك الحد، بل إن الامر قد وصل بالمسؤولين المذكورين إلى حد الادعاء بأن هؤلاء اليهود كانوا من أتباع الدولة العثمانية، وأنهم قد ولدوا في قضائي صفد وطبريا، وأنهم كانوا يقيمون في القرية المعروفة بمزرعة الخضيرة، وأنهم لم يكونوا مسجلين في سجلات النفوس، حيث نظمت بحقهم معاملة المكتومين (المنسيين أو البدون)، مقابل تغريم كل واحد قادر على الدفع منهم مجيدي أبيض واحد ( أي ست مجيديات) كغرامة تأخر في التسجيل، بينما اعفي من هذه الغرامة من ادعوا منهم عدم مقدرتهم على الدفع، وقد أبدى كانبوا الرسالة استغرابهم من اكتمال تلك المعاملة بتلك السرعة وخلال يوم واحد، حيث اكتسب هؤلاء المهاجرون اليهود الجدد صفة قدماء الأهالي بين ليلة وضحاها.
وتعيد الرسالة التأكيد على قيام وكيل شاكر باشا المذكور، ومفتي عكا علي أفندي، وسليم نصر الله الخوري من جبل لبنان بقبض مبلغ ثمانية عشر ألف ليرة قيمة بيع تلك الأراضي، دون أي اعتبار لمصالح الأمة والوطن، ولمجرد تأمين أسباب الراحة لهؤلاء اليهود الذين طردوا وأبعدوا من الدول الأجنبية. وأن عمليات إنزال المهاجرين اليهود كانت تتم كلما مرت سفينة في ميناء حيفا.
وتكشف هذه الرسالة في شهادة فريدة للتاريخ، عن العمليات الملتوية التي واكبت سيطرة المهاجرين اليهود على منطقة قرية زمارين الفلسطينية وما حولها، فتؤكد وقوع القرية في ذلك الوقت تحت سيطرة البارون روتشيلد، وأنه أصبح بطريقة ما مالكا لها، وأن في القرية سبعمائة بيت يعود معظمها لليهود. وتبين الرسالة أن القرية قد تم بيعها لليهود بطريقة مشبوهة، إثر صدور إعلام شرعي بوجوب تسجيل القرية في دفتر الشواغر، بعد أن مات مالكها الأصلي، والذي لم يكن له ورثة شرعيون. كما تذكر الرسالة تفصيلات هامة عن تمليك القرى المحيطة بقرية زمارين والحاقها بها وهي: شيفيا وأم التوت وأم الجمال، وتذكر الرسالة أيضا أن صادق باشا قد باع الى اليهود أراض خربة لا تتعدى قيمتها ألفي قرش مقابل ألفي ليرة. كما تذكر الرسالة الوثيقة أن تلاعبا مشبوها آخر رافق عملية بيع الأراضي الهامة على الساحل بين حيفا ويافا والمعروفة بخشم الزرقة، والتي تزيد مساحتها عن ثلاثين ألف دونم، حيث بيعت الى يهود زمارين على اعتبار أنها خمسة آلاف دونم فقط، وبسعر ثلاثة قروش للدونم، مع أن سعر الدونم الواحد في ذلك الوقت كان يبلغ ليرة واحدة ...!
ويكشف كاتبوا هذا التقرير في جانب هام آخر منه الكيفية التي قامت بها بعض الارساليات التبشيرية باستملاك بعض أراضي المنطقة، ويتحدثون عن عمليات التلاعب والتحايل التي تمت في تمليك معظم أراضي جبل الكرمل، مركزين على أهميته بالنسبة للدولة العثمانية، ويذكرون بأن القسم الأعظم (أكثر من خمسة عشر ألف دونم) من أراضي هذا الجبل الشهير قد تم بيعه (بالحيل وبالطرق الملتوية) إلى رهبان دير الكرمل الفرنسيين من قبل رئيس البلدية مصطفى الخليل، وعضو الإدارة نجيب الياسين، وأن (عشرة آلاف دونم) أخرى قد تم بيعها بطرق مشابهة، وبسعر منخفض أيضا، الى بعض الرهبان الآخرين من رعايا الدولة الالمانية، وأن القنصل البريطاني في حيفا في ذلك الوقت المدعو مستر سميث قد توسط في تمليك (خمسة آلاف دونم) إلى سيدة بريطانية (The British Lady) مقابل سكوتها على بيع تلك الأراضي إلى الأجانب الآخرين، وأنه قد تم بعد ذلك إنشاء مبان وكنائس ضخمة على تلك الأراضي.
ولم يهمل كاتبوا الرسالة الاشارة الى القضية العامة التي بادر متصرف عكا زيوار باشا إلى رفعها، في عهد رئيس محكمة البداية في حيفا محي الدين سلهب الطرابلسي، ضد الأجانب المعنيين، مطالبا باستعادة تلك الأراضي، وقد نوه كاتبوا الرسالة بأن تلك القضية كادت أن تحسم للصالح العام، لولا ورود برقية من سلطات أعلى بتعطيل كافة المعاملات المتعلقة بهذه القضية، مع الأمر بنقل المرحوم زيوار باشا إلى القلعة السلطانية (جناق قلعة)، وتعيينه هناك، ويتابع كاتبوا الرسالة قائلين (وبذلك أصبحت شواطئ البحر وجبل الكرمل وتلك الأراضي والمناطق المهمة التي تفتدى كل حفنة من ترابها بالروح بيد الغاصبين الأجانب بدعوى التقادم).
أما الجزء الأخير والهام أيضا من هذا التقرير، فيشير إلى الدور البهائي في هذه اللعبة، وإلى النشاطات التي كان يقوم بها (الإيراني عباس المنفي حاليا في عكا) ويقصد به الزعيم البهائي عباس افندي (الذي يدعى أيضا بالغصن الاعظم أو عبد البهاء)، ويقول التقرير أن عباس هذا، كان يحقق كل شيء يريده بفضل ثروته ونفوذه، بالتفاهم مع رئيس بلدية حيفا مصطفى، وعضو المحكمة نجيب، وأنه كان يقوم وعملاؤه بسلب واغتصاب أراضي العاجزين والفقراء من الأهالي، بأثمان بخسة، ليقوموا بعد ذلك بتهيئتها، وبيعها بأثمان فاحشة إلى اليهود والأجانب الآخرين، من أجل تحقيق مصالحهم الشخصية.
أما هذا العباس (السمسار الأعظم) الذي أنعم عليه البريطانيون بلقب (سير) نظير خدماته الجلى التي فضحتها الرسالة الوثيقة، فيبدو أنه قد خص نفسه بقطعة كبيرة من الأرض، تمتد من ساحل البحر الأبيض المتوسط وحتى قمة جبل الكرمل في حيفا، حيث تم دفنه هناك بعد وفاته، وبني له ضريح ضخم ذو قبة ذهبية صفراء، أطلقوا عليها اسم (قبة عباس)، كما أن أتباعه البهائيون قاموا ببناء المقر والمعبد الرئيسي للديانة البهائية في نفس الموقع. وتعتبر الحديقة المحيطة بذلك المعبد المشيد على الاراضي المغتصبة من الفلسطينيين، واحدة من اجمل الحدائق في العالم.
ويصف التقرير في ختامه، كيف تمكن المهاجرون اليهود بفضل المال من السيطرة على المتنفذين في ذلك الوقت، وكيف أصبحوا (مرعيو الخاطر) ويحسب لهم ألف حساب، لدرجة أنهم أصبحوا يتحرشون بالنساء ويضايقون الأهالي المسلمين في القرى المجاورة ويتسلطون عليهم، ويدلل التقرير على ذلك بذكر ما تعرض له علي بك الشركسي المدير السايق لناحية قيصاري (قيسارية) من قبل يهود زمارين، حين توجه إلى هناك من أجل التحقيق، بعد ورود اخبارية عن قيام اليهود بسك وتزييف النقود العثمانية المعدنية (الاقجه)، حيث قام اليهود بضرب المدير المذكور وإهانته، وبلغ بهم الأمر إلى حد التسبب ومن خلال بعض الوسطاء في عزله عن وظيفته، ويبين التقرير كذلك أن هذا التراخي من قبل بعض المسؤولين المحليين مع المهاجرين اليهود، جعل هؤلاء يتجرأون ويقومون بإرهاب من يعارضهم من العرب وحبسهم وتعذيبهم، ناهيك عن قيامهم في نفس الوقت ببناء المدارس السرية وتخزين مختلف أنواع الأسلحة والذخائر...!