المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : اياكم والضرب على الرؤس - بقلم فارس كمال محمد



فارس كمال محمد
11-02-2014, 04:52 AM
اياكم والضرب على الرؤس


فارس كمال محمد
============


عندما وقف الفيلسوف الفرنسي الشهير ( فولتير ) في احد المطاعم الفاخرة يلقي على رواد المطعم - ببلاغته المعهودة والفصاحة الجريئة التي اشتهر بها – كلمات فيها من الاعتداد بالنفس وتخطىٍ لخطوط الادب المعتمدة عند الأوساط الاجتماعية ذلك الوقت ، تساءل احد النبلاء ( دي روهان ) عن هذا الذي رفع صوته عاليا ، ولم يقم وزنا للحاضرين ، ولا ابدى احتراما للرجل النبيل الموجود في المطعم .. وكان رد فولتير على نفس ما عهد منه قائلاً: يا سيدي ان من يتحدث ، رجل لا يملك اسماً كبيراً ولا مرتبة نبيلة على وفق مقاييس المجتمع ، لكنه شخص معروف ، وله شعبية واسعة بين الناس ، ومحبة كبيرة فيهم .. كتم النبيل غيضة ولم يرد عليه ، لكنه اوعز في خفاء الى بعضٍ من ازلامه لتلقين فولتير درساً قاسياً ، موجعاً ، واباح لهم الانهيال عليه بالضرب المبرح ، وان لا يدَعوا من جسده مكانا الا وتركوا فيه ذكرى تعيش معه ما دام حياً ، الا الرأس ، فقد منعهم من المساس به بسوء.. واجتنابه ، فقد يخرج منه يوماً ما شيء عظيم .. ولو انهم لم يلتزموا بالأوامر . بل صبوا عليه نيران حقدهم وعدوانيتهم التي يتميز بها كل من هو على شاكلتهم ، وافرغوا فيه شحنات حقدهم وسوء خلقهم ليخرج بعدها على الناس معصّب الرأس اعرج الرجلين ..
ما ابداه اتباع الرجل النبيل ، لا يترك فينا أي اثر او مردود ، فانهم كثيرون لا في ذلك الوقت وحسب وانما كل الأوقات ، حتى في يومنا هذا ، وتجد الكثيرين منهم حراس شخصيات مرموقة ومعروفة في المجتمع ، وفي حانات الخمور ، والملاهي العامة والقمار .. وما يجمعهم كلهم هو انهم من شريحة مستهجنة عند الناس وليسوا على كل حال من المثقفين ، ولا اصحاب شهادات رفيعة ، ولا مناصب ادارية مرموقة ، وربما منهم قطاع طرق وآخذي اتاوات .. وليس لهم في صناعة تاريخ الحضارة والمجتمع دور يذكر ..
وما يهمنا ، هو الرجل ( النبيل ) ، ذلك الذي اوغر الحقد على فولتير صدره وملأ قلبه ، واستعرت في نفسه نيران الغضب فلم يعد له الا ان يرد الصفعة الى وجه فولتير وربما قتله ، اذ ان ما جرت عليه اعراف المجتمع السائدة هو ان يلتجئ المتخاصمان الى المبارزة بالسيف فيقضي القوي منهما على الاخر وينهي حياته .. لكن النبيل لم يصل في مسعاه الى المنتهى في تحديه ، وسمح بتأديب فولتير وضربه ، بشرط الحفاظ على سلامة رأسه ، لا لسبب سوى اعتقاده ان في هذا الرأس شيئا لو خرج ربما لكان من العظمة التي تعود على مواطنيه بالخير ..
وارى ان حال الرجل ( النبيل ) هذا هو حال أهل أوربا بشكل عام ، عدا تلك الشرائح التي ليس لها حساب او دور في تطور المجتمع . وارى انهم على وعي بهذا التصور ، ويأملون في كل انسان عندهم ، ان يقدم ما لديه من فكر يمكن ان يعود على الدولة والشعب بما ينهض بالمستوى العام والسيطرة على الطبيعة ودفع عربة التقدم الى امام .. وليس ادل على هذا من ان تاريخ العلم المدون والفكر الاجتماعي والفلسفي للعالم الغربي بشكل عالم ، زاخر بالنظريات وحافل بالمدارس الفكرية والنظريات ، ومزين بالاختراعات والمكتشفات ، وهم اليوم يعيشون مرحلة خيالية من التطور والتقدم ، سبروا فيه اغوار الظواهر كلها بلا استثناء ، وصعدوا الى السماء وارسلوا السفن الى هناك وحملوها المراصد والمناظير وصوروا الكون ونهاياته ، ولو انه بلا نهايات ، ... والكلام يطول ويطول .. وهم اليوم يرصدون الجوائز لكل مخترع واديب وفيلسوف ، ويهيئون المستلزمات المطلوبة لكل صاحب مشروع يمكن ان يساهم في مشروعهم العجيب ..
انهم يحترمون الانسان .. ويحافظون على عقله .. لقد فتح ( ميشيل مونتاني ) في القرن السادس عشر أبواب مكتبته مفتحة واصر على استقبال الجحافل الهائجة الثائرة في ارجاء بلدته ( فرنسا ) متقبلا المصير الذي يرتؤونه اذا ما أرادوا ايذاءه ، لكنهم تركوه دون مساس وافسحوا له الوقت لمواصلة القراءة والإنتاج الذي اشتهر به .
(( أقول هذا ، وانا على علم بالذي يفعلونه اليوم من شرور لا تحتمل ، ومؤامرات تحاك على دولنا بلا خجل ، وانتهاك لكرامة الانسان وحقوقه وحرياته والحط من قدره وتمريغه بالوحل ، وسلب خيرات ارضه واكل ثمار غرسه ومنع العلم عنه واغراقه بالجهل ، لكني أقول مع هذا انهم طبقة سياسية من المجتمع ، صار لهم نفوذ ، ففعلوا الذي فعلوه، وهم اقرب الى تلك الشرذمة من ازلام الرجل النبيل بل احط من قطاع الطرق وآخذي الاتاوات والملتفين حول راقصات الملاهي وهم في كل الأحوال ليسوا ممن يصنع الحضارة ويدفع الى التقدم والرقي ما يعيشون فيه من الدول.
اما عصور اوربا المظلمة ، ومحاكم التفتيش المقامة وقتل العلماء وأصحاب الرؤى والأفكار التي حسبوها – خطأً – انها مخالفة لتعاليم الرب وكتاب الانجيل ، فقد كانت مرحلة استثنائية مؤلمة ، ولا تعد من اصل شخصية الانسان الاوربي ولا من مكونات شخصيته ، وقد نساها اهلوها او كادت ، واعترفوا بالخطأ واعادوا الاعتبار لمن اهرق دمه ظلما ، وهم اليوم حريصون على إعادة النظر في الفكر الديني ، يهملون التأويلات التي اخطأ فيها أصحابها فأضرت ، ويبرزون الجوانب المشرقة منها فتنفع )) .
وما قلناه عن ( ببليو جرافيا ) النتاج الأوربي العامر بالمعارف والزاخر بالمكتشفات لن نجده عند العرب ، فلم تحفل صفحاتهم بنظريات اهل الفكر ومكتشفاتهم العلمية واختراعاتهم التكنولوجية ، ولم يسبروا اغوار الفضاء ولا غاصوا في أعماق البحار ، ولم يصنعوا قاطرة ولا طائره ولا ارسلوا صاروخا الى السماء ولا حتى طائرة تطير او قطار يسير .. ولم نجد عندهم نظريات مسجلة بأسماء عربية ، لا في علوم النفس ولا الفلسفة ... اللهم الا في مجالات اللغة والادب والقرآن وعلم المنطق والكلام ، وحالهم اليوم يبعث على الرثاء والبكاء ، يشيع التخلف ويستشري بين الناس ، وتعم الفوضى ويوغلون في سفك الدماء ، ويهدمون بيوتهم ومدنهم بالقنابل والصواريخ وبعضهم لبعض أعداء .. انهم يرسمون صورة بشعة لأُمة فاشلة وعاجزة و متدنية ، وكأن الانسان فيهم لم يُخلق من طينة الانسان الأوربي ، وتصدق عليهم مقولات التفرقة بين الأعراق .. حتى صدّق أبناء امتنا هذا الافتراء ورأوا اننا الأدنى مرتبة من سلسلة الموجودات ، فانكروا انتماءاتهم وهجروا اوطانهم وانكروا دينهم واعلنوا الالحاد ..
لكن العلم في حقيقة امره يقر بان الأصل في ظهور الانسان واحد وان العقل البشري ذو تركيب متماثل ، وان وجدت اختلافات جزئية فهي وليدة الاختلاف في السلوك والتكيف والاستعمال ، وان الانسان هو الانسان في كل ظروفه ومنازله وطبقاته .. ولقد انكر( بافلوف ) دعوات التفرقة بين ادمغة الاذكياء عمن هم اغبياء ، اذ ان الإشكال ، كل الإشكال ، هو في اساليب التربية ومستجدات التجارب التي يمر بها الانسان .. ويحضرنا هنا تعليق برناردشو على السلوك الذي اتّبعه سكان أمريكا الوافدون مع اهل أمريكا الاصليين ( الزنوج) ، حينما امعنوا في استصغارهم وتحقيرهم وداوموا على السلوك معهم باعتبارهم عبيدا متخلفين واغبياء ، واستمر الحال حتى تعود الكبير منهم على هذا الحال وشب الصغير منهم وهو مؤمن بانه عبد ، غبي ، حقير.. فلما جاء اليوم الذي كان سلوكهم التلقائي وفقا للحال الجديد ، قال الامريكان المستحلون : انظروا .. الم نقل انهم متخلفون ، حقيرون ، اغبياء ...؟ .
لقد ذهب البعض من المستشرقين الى إقرار دناءة اصولنا وسخف عقولنا وعجز قدراتنا على النهوض على ارجلنا والسير بخطىً ثابته وملاحقة الغرب في رقيه وتقدمه .. لكن البعض الاخر منهم ، قد ابدى اعجابه بحضارة العربي أيام مجده ، والدين الذي في عنق الغرب لما انجزه العرب ..
فمن نحن اذن .. اعرب مبدعون .. ام أناس متخلفون .. ؟