المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : إشكالية اليونان في نظرتهم إلى النفس والمعرفة



نتائج البكالوريا - bac
10-26-2014, 03:36 PM
إشكالية اليونان في نظرتهم إلى النفس والمعرفة




منتدى الفلسفة والعلوم الانسانية منتدى الباكالوريا - منتدى الآداب و العلوم الإنسانيّـة - فلسفيات الباكالوريا آداب وشعب علمية بكالوريا علوم - باكالوريا آداب بكالوريا الجزائر بكالوريا المغرب - منتدى الفلسفة منتدى علم الاجتماع منتدى علم النفس (http://www.jobs4ar.com/jobs/forumdisplay.php?f=95)

منتدى الفلسفة من هنا (http://www.jobs4ar.com/jobs/forumdisplay.php?f=95)


لقد أوحيت الثقافة اليونانية نظرة محددة للكون ؛ ومارست تطبقيها على النفس بوصفها إشكالية على مستوى الممارية والتنظير . وهذه بوصفها النظرية الفلسفية يمكن أن ترشدنا إلى الآتي :-
أولا :- إن الحدث الأهم الذي يفرض نفسه ، ولا يمكن تجنبه هو " الموت " فهو بمثابة المشكلة التي واجهها الإنسان والتي دفعته إلى الدهشة والتساؤل وهو طريق يؤدي بنا إلى البحث في النفس ومصيرها ، أما الموت فكان يصور في هيأة شاب يحمل شعلة منكسة حيث كان هذا التصور هو الذي أوحى بفكرة التصالح مع واقعة الموت في اليونان القديمة حيث أكد " كونفورد " ذلك بقوله : ((إن الوعي الكاسح بالفناء يشيع العتمة في التيار الرئيس للفكر الإغريقي بأسره)) ويوافقه " برتيت " قائلاً : ((تأثر الايونيون .. بعق بالطابع الزائل للأشياء وفي الحقيقة كانت هناك نزعة أساسية نحو التشاؤم في نظرتهم للحياة))(1) وقد ظهر في الفكر اليوناني خطابان هما : الخطاب الأول وهو يعكس التصورات الرسمية التي مثلتها الديانة الهوميروسية الرسمية التي تحيلنا إلى مرجعيات رافدينية ؛ فعند هوميورس كلمة (psukhe) التي تعرب بـ " النفس " تعني (مبدأ الحياة) وهو الذي يخرج عند الخوف ـ فهو مرتبط بالنفس ـ ، الذي عند الموت أو بالدم تجري الحياة مع جريانه أما ما يبقى بعد الموت فإنه يمثل بقايا الإنسان الذي يفتقد إذا أردنا الدقة ـ إلى الجسيمية ، وإلى وجود النفس فليس هو إلا خيال يتشابه لا شك من الخارج مع الكائن الحي ولكنه لا يمكن الإمساك به ، ضعيف كالظل وأخرس(2) .
(فهوميروس) يجعل ظل " أخيل " يعبر عن وجهة النظر السائدة قائلاً : ((أناشدك يا أوديسيوس الشهير ألا تتحدث برفق عن الموت ، فلئن تعيش على الأرض عبداً لآخر .. خير من أن تحكم كملك لا ينازعه أحد في مملكة الأشباح اللاجسدية))(3).
والنحو الذي توجد عليه هذه الخيالات يقابل وجود الموجودات في هاديس(4) حيث تفتقد إلى الحياة تماماً . إن ما يبقى من الإنسان بعد الموت هو العدم ، وإنه لا يمكن الحديث عن حياة حقيقية بعد الموت فالموت هو نهاية حقيقية ، وقد وجدت العصور القديمة اليونانية سلواها في الشهرة(5) ، وفي نيل منحة الخلود من الآلهة حيث نظر أنصار المثل الأعلى البطولي إلى الموت بوصفه ذروة الحياة وقمة اكتمالها وبوصفه آخر المحن التي يتعرض لها الإنسان والاختيار الحقيقي لقيمته وعلى هذا فقد تمتع الإغريق بحس رفيع بالواجب نحو المدينة والاستعداد للتضحية بالحياة من أجل رخائها ، وكذلك حظيت " الشهرة " التي تكتسب نتيجة للقيام بأعمال مجيدة ، في الميدان ، بقيمة عظمى ، بوصفها وسيلة لتحقيق خلود رمزي في أذهان الأجيال المقبلة . لكن البطل إنما كان يحظى بالتشريف والتمجيد على وجه الدقة لأنه كان استثناء من القعادة ، وهو بالاستغناء عن حياته في عمل رائع من أعمال البطولة ، ولأنه يكون قريباً للغاية من الآلهة وفضلاً عن جانب الشهرة ، فهناك جانب آخر في هذه الديانة هو منحة الخلود من الآلهة ، وإلى جانب هاديس فهناك أيضاً في موضع مختلف منطقة مخصصة للسعداء وإلى المغضوب عليهم ؛ والسعداء ليسوا مجرد ظلال لا كيان لها ، بل هم البشر أنفسهم الذين يكفرون عن ذنوبهم أو يجازون خير جزاء عن حياة قويمة مجيد ـ O Happinestsland لا شك إن هذه الأفكار كانت تعود إلى مرجعيات ثقافية متداخلة في الشرق ولا شك إن المرجعية العراقية القديمة ذات تأثير بارز في هذا المضمار في الديانة الرسمية اليونانية وهذا يظهر في :-

1) تصورات العراقيين للعالم السفلي وما هي معاناة الإنسان في ذلك العالم الذي يصبح فيه الإنسان مثل سيمي فهكذا أظهر أنكيدو لصديقه جلجامش الذي يرد في الملحمة وكذلك الوضع المأسأوي الذي يعيشه الإنسان وأقل ذلك العالم حيث غياب العدالة حيث يستوي فيه العادل والظالم وفيه تم توظيف لمفهوم المدينة فهي الغاية التي يحصل الإنسان على مبتغاه في الشهرة وهذا ما يحصل عليه جلجامش من رحلته الطويلة .
2) الجزر السعيدة إنها " ديمو " العراقية التي يتحقق فيها الجزاء العادل في العيش من خلال منحه الخلود التي منحتها الآلهة إلى أوتونابشتم الذي يقابله جلجامش ويجري معه حواره الذي يكون قد فاز فيه أوتوتابشتم بالخلود ، وظهرت نماذج مشابهة في اليونان ، وإنها جنة أوزوريس في العالم الأرضي التي تكون عقاباً للظالم وجزاءً للعادل .

وقد كانت تلك هي التصورات المتخيلة للعالم الآخر والتي تم توظيفها في تحديد رؤية اليونان للعالم من جهاد إلى الحياة بما فيها من طابع غامض زائل قلق .
وهو الذي مثلته الرؤية التي تنتمي إلى الديانة غير الرسمية التي دأبت على ممارستها الجماعات الأورفية والتي تقترب جذورها فيما يبدو في عبادة " ديونيزوس " الأكثر قدماً . وقد اختلفت هذه الديانة عن تلك الديانة الرسمية حيث كان لكل مدينة يونانية آلهتها ، وهي العرفان بالجميل والمصلحة الخاصة ، وخوف العقاب حيث إن الآلهة كانوا يُعدون بناة المدينة وحماتها ، فكان تكريمهم واجباً وطنياً ، وكان الإلحاد في حقهم خيانة للوطن ، غير أن خطاباً دينياً ثانياً ظهر ويسعى إلى تجأوز حدود المدينة وإلى دعوة الناس جميعاً ، إلى روحية أسمى وأقوى فبدا لهم أنه قد يكون بالإمكان إيجاد علاقة بالآلهة غير علاقة العبد بالسيد ، علاقة تقرّب فاتحاد تكفل للإنسان المشاركة في السعادة الإلهية . ووجدوا عند الشرقيين غذاء لهذه النزعة . فنشأت (أسرار) ونحل سرية تعلل مريديها بالنجاة من مصائب هذه الحياة وبالسعادة في الآخرة بالآلهة . وهي بذلك عكس الديانة الرسمية التي ترى حياة الإنسان ظل زائل ، ووجوده بعد الموت ظل الظل . وأشهر هذه النحل السرية أسرار إلوسيس والأسرار الأورفية . نحلة إلوسيس تعبد "ديمتير "(1) التي كانت آلهة الحرب عند هوميروس فصارت عندها آلهة العمل(2) .
أما الأورفية فتعبد ديونيسيوس(3) الذي كان عند هوميروس إله ترف الاشراف فصار عندها إله التضحية . وعبادة ديونيسيوس معروفة منذ عهد قديم(1) وقد زعم أتباع الأسرار الأروفية إنهم يمتلكون
وفي هذه الديانة تفاعل المرجعيات التالية :
1) الإله الشهير ، تموز دوموزي ، القائم على الاستشهاد ثم البعث ومنهم الأثناء .
2) الجنة والعودة إلى الله . وهي يعطينا التصور المصري
3) النشوء المائي الواقي المصري .
معرفة سرية بالعلم الروحي ، وذهبوا يكررون القول :ـ بخلود النفس ؛ ويؤكدون إن الموت هو الباب المفضي فحسب إلى حياة أفض أخرى(11) . ولقد شقت النظرة الأورفية للموت طريقها إلى الفلسفة على يد فيثاغورس (572 ـ 497 ق.م) الذي علَّم تلاميذه تناسخ الروح وتظهرها في عجلة الميلاد ، ثم عودتها إلى الاتحاد النهائي مع الله ، إن الروح تسمن في الجسم وتغادره عند الموت وبعد مدة من التطهير تدخل الجسم مرة أخرى ، هذه العملية تكرر نفسها عدة مرات ، ولكن يتعين على الإنسان للتيقين من إنه مع كل وجود جديد تحتفظ الروح بنقائها وتصبح أفضل وأشد نقاء ، وبالتالي تقترب أكثر من المرحلة النهائية التي يتم فيها التوحد مع الله ـ يتعين لتحقيق هذا أن يتبع الإنسان نظاماً معيناً حيث على وفق رؤية فيثاغورس أصبحت الفلسفة طريق حياة تؤكد الخلاص(12) وقد ظهرت قائمة طويلة من القصائد حكت عن الأسفار إلى العالم السفلي وبعضها ظهرت تحت اسم أورفيوس والبعض الآخر تحت اسم فيثاغورس الذي أثر في أفلاطون وفي أرسطو وآخرون كثيرون(13) .
فقد تصور العالم بوصفه كائناً حياً ـ حيواناً كبيراً ـ يستوعب بالنفس خلاء لا متناهياً هو عبارة عن هواء غاية في اللطافة ضروري للفصل بين الأشياء ومنعها من أن تتصل فتكون شيئاً واحداً وجعل أتباعه الأشياء تحدث بالتكاتف والتخلخل ، أما النفس فيذكر أفلاطون رأياً لبعضهم يقول إن النفس نوع من النغم ، ومعنى ذلك إن الحي مركب من كيفيات متضادة : الحار والبارد واليابس والرطب ، والنغم هو توافق الأضداد وتناسيها بحيث تدور الحياة ما دام هذا النغم موجوداً وتنعدم بانعدامه على أن أرسطو يذكر هذه النظرية ولا يعزوها للفيثاغورسية التي تؤمن بالتناسخ على أن أرسطو إذ يذكر هذه النظرية لا يعزوها للفيثاغوريين .. لكنه يضيف إليهم صراحة قولين : الواحد فلا تبصر إلا في شعاع الشمس وتتحرك دائماً حتى عند سكون الهواء ـ فكأن أصحاب هذا الرأي أرادوا أن يفسروا الحركة الذاتية في الحيوان ، فاعتقدوا إن هذه الذرات المتحركة دائماً تدخل جسمه وتحركه . ولعلهم ظنوا إن هذا التصور يفسر أيضاً كون المولود يجد ساعة ميلاده نفساً تحل فيه . وهو على كل حال يتابعون معاصريهم فيتصورون النفس مادية وإن جعلوها مادة لطيفة جداً(14) ، وهناك تصور ثالث ظهر بصورة تدريجية بما يخص حديث الموت وحينما ذهب طاليس(15) Tales إلى أن " الماء هو أصل الأشياء " فإنه يعبر عن الرؤية الجديدة البالغة الأهمية القائلة أن " الأشياء جميعها واحدة ، وبالنتيجة فأن التغير والموت ، يصبح أقل تطرفاً عبر الواحدية الجوهرية لكل ما هو موجود . وقد شكلت هذه البصيرة النافذة جسراً بين ما قاله طاليس من أن الماء هو المبدأ الذي لا يهرم ولا يموت لكل ما كان الفلاسفة يبحثون عنه ، ويلي قوله الآخر ((إن العالم هو كيان حي)) . أما أنكسماندر(16) Anaximander " 610 ـ 547 " فقد تنأول الطابع الثاني للأشياء مؤكداً إن الأشياء تفنى وتنحل إلى الأصول التي تنشأ عنها ، على وفق ما جرى به القضاء ، ذلك إن بعضها يعرض بعضاً لأنها تتحمل (الجزاء) كل منها قبل الآخر ويبدو إن أنكسماندر قد افترض وجوداً لا محدوداً "apeiron" غير متناه لا ينفد لأن رؤيته في الموت تتضمن القبول بالموت أفراداً مقابل أن يعلق الآمال على دوام " الكل " الذي لا يمكن فيه أن يكون فناء بغير معنى(17) .
وأما هيراقليطس(18) (533 ـ 475) فيرى : ((إننا ننزل ولا ننزل في الأنهار ذاتها ، إننا موجودون وغير موجودين)) أي إن الصيرورة نزاع وإن الأضداد في قلب هذا النزاع تشكل وحدة على نحو ما يفعل قطب المغناطيس أو المصارعين في الحلبة فإذا ما افترضنا إن كل ما يقصده هيراقليطس بهوية الحياة والموت هو إن الفرد يفنى لكن النوع يبقى فإن إجابته ستكون استباقاً لما قدمه أرسطو وعلم الأحياء فيما بعد لمشكلة الموت ، وقد بدت الطبيعة أمامه حية والروح الإنسانية وثيقة الارتباط بالتطور العالمي بأسره . في أثناء هذا التنقيب عن نفسه اكتشف اللوغوس (Logos) أي العقل ، أو الفكر ، أو الكلمة ، الذي حدثه بأن مبدأ عاقلاً يحكم العالم ، وإن هناك وحدة بين العقل الإلهي والعقل الإنساني(19) . وتستمد فلسفة هيراقليطس من الطبيعة هنا ، في تفسير مشكلة التغير والوحدة ، فيرى ((إن في العالم وحدة ، ولكنها وحدة نتجت عن تباين))(20) وكذلك فإنه يرى بالمقابل ((إن الأشياء في تغير مستمر وإن القانون العام الذي ينظم الوجود هو التغير ولا يوجد شيء باق على الإطلاق))(21) .
أما بارمنديس(22) Parenides (515ـ ق.م) فيصرح بأن الوجود يملأ جميع أنحاء المكان ، أما العدم فهو (المكان المحض) أي الفراغ المطلق ، وهذا العدم يستحيل أن يوجد . وبناءً على هذه المقدمة يذهب بارمنديس إلى أن العالم ينبغي أن يكون واحد أو محدود وبالتالي ينبغي أن يملأ المكان كله(23) .
وهذا يعني إنه ليس هناك شيء اسمه الفراغ الخأوي سواء داخل العالم أو خارجه وينتج من ذلك إنه لا يمكن أن يوجد شيء حتى الحركة ، وبدلاً من أن يخلع الواحد صفة التغيير على نحو ما فعل هيراقليطس وبالتالي جعله قادراً على تفسير العالم فإنه يرفض التغير بوصفه وهماً .. فإذا كان التغير وهماً فكذلك الموت ، لابد الاختفاء عن الوجود يغدو أمراً مستحيلاً(24) فالوجود لكي يتحرك لابد له من خلاء تحدث فيه حركته(25) .
وأما أميادقليس Empedocles(26) (495 ـ 435 ق.م) فنجد معه مزيجاً غريباً من مبدأ الخلود عند فيثاغورس Pythagoras والروح العلمية ، حيث يؤكد في قصيدته ((التطهر)) تناسخ الروح وأصلها الإلهي ، ويعلن في قصيدته عن (الطبيعة ) إن القوى النفسية ليست سوى وظائف مادية فالفكر لا يعدو أن يكون الدم الذي يحيط بالقلب وتنشأ الكائنات الحية من خليط من عناصر أربعة تنحل إليها مرة أخرى عند الموت(27) فهو ينظر إلى العالم بشكل مقارب ل ( بارامنديس ) فالوجود (لايقبل التغير ) وذلك لان التغير اما إلى فساد واما إلى كون . ولما كان الوجود واحدا فلا يمكن إن يكون هنالك كون ، لانه لايمكن تصور إن يضاف شئ إلى الوجود من حيث إن أوجود هو الكل وليس غير الوجود شئ (28) قوتين يعود اليهما تجمع العناصر وتفرقهما يسميهما المحبة والكراهية الا إن الفكرة المركزية عنده هي القلب قد اخذها من مدرسة الطب في صقلية حيث الدم اكمل الامزجة واختلاف الناس عقلا يرجع إلى اختلاف اجزاء الدم في حجمها وطريقة توزيعها وتمازجها(29) .
ويؤكد اناكساجوراس(30) Anaxagoras (500 ـ 428 ق.م) إن العقل (Wous) هو الذي يخلع النظام على الكون وهو سبب الأشياء كافة والحركات جميعاً وقد استخف بالموت فهو يراه تحللاً كاملاً ويظهر ذلك من خلال قوله بثلاث قضايا كبرى هي :
أولاً / إن الأشياء متباينة بالذات.
ثانيا / أن لا يخرج الوجود من اللأوجود .
ثالثا / إن الكل يتولد من الكل (أو إن كل شيء يتولد من أي شيء) فالكون هو ظهور عن كمون والفساد كمون بعد ظهور(31) ويمكن عرض رأيه بالشكل الآتي :
1- إن العالم في الأصل مزيج من كل الأضداد ومن ذرات غير متناهية .
2- إن هذه الذرات لا تحتوي على مبادئ حركتها إنما هي متحركة بفعل العقل المباني للمادة .
3- إن هذا العقل عارف بكل شيء وقادر على كل شيء .. وإنه اللامتناهي القائم بذاته الموجود بذاته . وإنه ليس كمثله شيء إنه القوي بذاته وإنه مصدر قوة الأشياء جميعها .
4- وبدأت حركة العالم بفعل سيطرة العقل عليه فنظم العقل حركة كل ما كان وكل ما هو كائن وكل ما سيكون .
5- وبدأت الحركة دائرة فكانت هذه الحركة سبب انفصال الضد من الضد فانفصل الحار من البارد والمضيء من المظلم والجاف من الرطب و الكثيف من الخفيف .
6- وينتهي دون العقل بتحريك المزيج الكلي لهذا العالم .
7- أما الأصل التكويني لمحتويات العالم فهو الذرات .
8- إن هذه الذرات خالدة أولية أبدية لا تفنى وإنها لا متناهية في العدد ومتباينة تبايناً لا تشابه به ذرة ذرة أخرى .
9- إن كل ذرة تحتوي على جميع الخصائص والأضداد(32)
ومع لوقبيوس(33) Leucippus (ت 440 ق.م) الذي كان ممثلاً للمدرسة الذرية ، نجد ((إن الذرات هي الملاء وهي الوجود ، وإن الخلاء هو اللأوجود . والذرات مادية بكل ما في المادة المحسوسة في معنى جسم رياضي له طول وعرض))(34)ومن هنا قال إن الحيوانات لدى الموت تنحل إلى ذرات (atoms) ولكن ماهو أكثر أهمية بالنسبة لتكوين مثل هذا الموقف يتمثل في ظهور النظرة إلى الموت بوصفها تغيراً ضرورياً وطبيعياً(35) لأن الموت جزء مهم من فاعلية الحركة التي افترض وجودها فهي غير مستحيلة بل هي موجودة ولها نوعان الحركة الأولى خاصة بحركة الذرات الأولى في الخلاء والثانية خاصة بحركة الذرات من اجل تكوين العالم(36) .
ويؤكد ديمقريطس(37) Democritus ( 460 ـ 370 ق . م ) ويتابعه في هذا القول تلميذه ( ) فناء الروح . فالذرات الدقيقة أو اللطيفة التي تتألف منها الروح تتبدد عند الموت حسب قوله وهو يستمد من ذلك فلسفة أبيقور فيصرح بأن الناس ممن لهم ضمائر سيئة لا يدركون إن هناك تحللاً كاملاً في كل مكان من الطبيعة يعيشون في خوف بسبب الخشية مما يتصورون إنه يقع بعد الموت(38) .
هكذا كان الموت الحدث الطبيعي الذي تنوعت حوله الآراء الفلسفية وتعددت . فقد حأول كل
منها تحديد طبيعة الموت ، وعلاقته بالإنسان ، ثم علاقة الأخير بما يحيط به ، ثم التصورات التي تتعلق فيما بعد الموت والتي يرى بعضها إن هناك خلوداً فردياً ويرى بعضها الآخر إن هناك بقاءً للنوع واختفاءً للفرد .
ومن الملاحظ إن الموت كان حدثاً انطلقت منه كل التصورات وتنوعت وتصاعدت في التجريد وهو أمر سوف يكون له تأثير في موضوع بحثنا في الفكر الفلسفي سواء منه الإسلامي ممثلاً بابن سينا أو الفكر الفلسفي المسيحي المتأثر بابن سينا .


المبحث الأول / أصول مبحث النفس
المقصد الأول > النفس في الفكر اليوناني <

إن الغاية التي تكمن وراء هذا المقصد هي تنأول مفهوم النفس وكيف تبلور داخل الفكر اليوناني ، وما تركت الإشكالية الاجتماعية والسياسية على هذا المفهوم وجعلته يأخذ أبعاداً محدد خصوصاً إذا علمنا إن أي مفهوم فكري لا يعدو أن يكون أكثر من أداة إجرائية وجد لتحقيق وضبط غاية محددة كانت الدافع إلى البحث به بصيغة التأمل أو التجريب حلاً لمشكلة ما .
وعلى هذا الأساس هناك بعدين كان لهما في تحديد أبعاد مفهوم النفس في الفكر اليوناني وهما :
البعد الأول :- " حدث الموت " كان لهذا الحدث التاريخي أثر في البحث في مفهوم النفس حيث تم التطرق إلى العلاقة بين النفس والجسد والتأمل في " حدث الموت " والآراء التي تنأول البحث في الخلود الفردي أو البقاء للنوع(1) ومفهوم المعاد الأفردي الجسدي أو الظل الشبحي shadow(2) وبالتالي الوظيفة التي أنيطت بالنفس .
البعد الثاني :- الجانب الاجتماعي المتكون داخل نسقين :- العملي يأخذ بالوجهة الطبيعية يقابل ، الرياضي الذي يأخذ بالوجهة الميتافيزيقية . فالنسق " العملي " وقد ظهر في الفلسفة الأيونية ، هي النظر الجديد ـ للعالم التي ظهرت بتأثير سيطرة الرجل الغني على الطبيعة ، ذلك الرجل الذي كان عضواً في مجتمع حرفي حيث هناك تماثل بين العمليات الطبيعية .
لقد شكل الحدثان الثادي وراء تلك التصورات التي ظهرت حول النفس والفردية (الشخصية) في الفكر اليوناني الذي وقف إزاء حدث الموت الذي لا يمكن تجنبه فهو بمثابة المشكلة التي واجهها الإنسان والتي دفعته إلى التساؤل وهو الطريق الذي يؤدي بنا إلى البحث في النفس ومصيرها وفقد كان الوعي الكاسح بالفناء يشيع العتمة في الفكر اليوناني مما يجعله يتأثر بعمق بالطابع الفاني للأشياء لهذا ظهر خطابان هما :-
الخطاب الأول الذي ينظر إلى النفس psukhe تعني (مبدأ الحياة) وهو الذي يخرج عند الموت مرتبط بالنفس ، أو بالدم تجري الحياة مع جريانه أم ما يبقى بعد الموت فليس هو إلا خيال يتشابه من الخارج مع الكائن الحي ولكنه لا يمكن الإمساك به ضعيف كالظل وأخرس(3).
وقد يكون هذه الصورة الشبحية أي أساس ما سيقوله أرسطو عن النفس باعتبارها صورة للجسد التي نجدها لدى هوميروس .
فقد كان موقف هذا الخطاب من الموت بوصفه ذروة الحياة وقمة اكتمالها وآخر المحن التي يتعرض الإنسان لها ، والاختيار الحقيقي لقيمته من خلال الإحساس الحقيقي بالواجب نحو المدينة والاستعداد للتضحية بالحياة من أجل رخائها حتى يحصل أم على الشهرة أو منحة الخلود من قبل الآلهة .
أما الخطاب الثاني وهو الذي مثلت الرؤية التي تنتمي إلى الديانة غير الرسمية التي دأبت على ممارستها الجماعات الأورفية والتي تضرب في جذورها في عبادة (ديوتيزوس) فهي تجأوزت الموقف الديني الرسمي القائم على العبودية لتقترب من علاقة الاتحاد تكفل للإنسان المشاركة في السعادة الإلهية . ومن هنا " قالوا بخلود النفس ويؤكد إن الموت هو الباب المفضي فحسب إلى حياة أفضل أخرى(4) ، ولقد شقت النظرية الأورفية للموت طريقها إلى الفلسفة على يد فيثاغورس (572 ـ 497 ق.م ) الذي علَّم تلاميذه تناسخ الروح وإن الروح تسجن في الجسم وتغادره عند الموت بعد مدة من التطهير تدخل الجسم مرة أخرى وهذه العملية تكرر نفسها عدة مرات حتى تقترب من المرحلة النهائية التي يتم فيها التوحد مع الله(5) ،ويذكر أفلاطون رأياً لبعضهم (إن النفس نوع من النغم ، ومعنى ذلك إن الحي مركب من كيفيات متضادة والنغم هو توافق الأضداد بحيث تدور الحياة ما دام هذا النغم موجوداً وتنعدم بانعدامه وأرسطو يذكر هذه النظرية ولا يعزوها إلى الفيثاغورسية إلا أنه يذكر لهم القول (لا تبصر إلا في شعاع الشمس وتتحرك دائماً حتى عندما يكون الهواء ، فاعتقدوا إن هذه الذرات المتحركة دائماً تدخل جسم الحيوان وتحركه(6) .
أما البعد الثاني : وفي هذا البعد فرص ظهور تصورات للنفس مختلفة متنوعة بطبيعة المنهج المتبع في دراسة النفس فهذا المنهج قد تأثر بالوضع الاجتماعي : فهناك الخط العملي الذي يأخذ بالوجهة الطبيعية وإن المصدر الذي نبع منه هذا الخط في الفلسفة الأيونية هو تلك النظرة الجديدة للعالم التي نتجت من سيطرة الرجل الفني على الطبيعة ، ذلك الرجل الذي كان عضواً في مجتمع حرفياً لإيمان بالتماثل بين العمليات الطبيعية والعمليات الفنية هو مفتاح هذه الفترة(7) .
أما الخط الثاني فقد كان يتصف إنه تخّيلي انفعالي سيكون أساساً للدين والفلسفة والعادات والأخلاق وهو يعتمد اللغة بوصفها وسيلة لتجديد مقاله فكانت أداة للانفصال عن العالم الواقعي عبر فعالية التجريد التي تبتعد عن الواقع مكتفية بذاتها(8) .
وفي هذا البعد ممكن نمازج موقفين الأول هو الرؤية الواقعية من جهة أي التي ينظر إلى الأشياء انطلاقاً من البحث العلمي ـ الفني ومن جهة أخرى تشكل موقف من الموت فهي تؤكد هذا الموقف الغريب من السلطات الدينية الرسمية التي لا ترى في بقاء الفرد سوى ظل سينتمي لهذا فهي تؤكد البقاء وزوال الفردية لصالح المجموع هذا ما يمكن أن نلاحظه في النظر الواحدية الجوهرية لدى طاليس (Tales) القائلة (إن الأشياء جميعاً واحدة) وفق المبدأ القائل إن الماء المبدأ الذي لا يهرم ولا يموت وبين القول (إن العالم هو كيان حي) ومن ثم نظر إلى النفس حسب أرسطو (على إنها قوة محركة) ، لدى أنكسماندر Anaximander (610 – 547)(9) مؤكداً إن الأشياء تفنى وتنحل إلى الأصول فهو يرى بوجود اللامحدود (lapeiron) القائلة بالموت لأفراد مقابل أن يعلق الآمال على دوام ((الكل)) الذي لا يمكن فيه أن يكون فناء بلا معنى ، وبين قول هيراقليطس"Heraclitus" (533 – 475) (إننا ننزل ولا ننزل في الأنهار ذاتها ، إننا موجودون وغير موجودين ، أي إن الصيرورة نزاع وإن الأضداد في قلب هذا النزاع تشكل وحدة على نحو ما يفعل قطب المغناطيس أو المصارعين في الحلبة ؛ فكل ما يقصده هيراقليطس بهوية الحياة والموت هو إن الفرد يفنى لكن النوع يبقى ومن هنا اكتشف اللوغوس (Logos) العقل أو الفكر أو الكلمة فهو المبدأ العاقل الذي يحكم العالم وبالتالي هناك وحدة بين العقل الإلهي والعقل الإنساني(10) ويؤكد على (إن في العالم وحدة ولكنها وحدة نتجت عن تباينين)(11) فإنه يؤكد على دوام التغير ، أما بارمنيدس Porenides (515 ق.م) يرخص التغير بوصفه وهماً فإذا كان التغير وهماً كذلك الموت لأن الاختفاء عن الوجود يغدو أمراً مستحيلاً(12) فالوجود لكي يتحرك لابد له من خلاء تحدث فيه حركته(13) ومع بارمنيدس نشطت الروح الرياضية التجريدية أكثر من الروح العلمية مما سوف يكون قاعدة للاتجاه صوب الميتافيزيقية ، أما امبادقليس فمعه حدث تداخل بين الروح العلمية والروح الدينية عندما جمع بين مبدأ الخلود عمد فيثاغورس Phthagoras والروح العلمية فهو ينظر إلى العالم بشكل مقارب لـ(بامنيدس) فالوجود لا يتقبل التغير ، أما أناكساجوراس Anaxagoras (500 ـ 428 ق.م) يؤكد إن العقل هو الذي يخلع النظام على الكون وهو سبب الأشياء كافة والحركات جميعاً مرتبط يستخف بالموت فهو يراه تحللاً كاملاً . ويظهر ذلك من خلال قوله(14) ومع لومبيوس Leacippus (ت 440 ق.م) ظهر تصور جديد للموت ونظرة ذات(15) دلالة علمية وهي في نفس الوقت تؤكد الكل على حساب الفردي فقد نظر (إلى الموت بوصفه تغير ضروري وطبيعي(16) لأن الموت جزء مهم من فاعلية الحركة التي افترضت وجودها فهي غير مستحيلة بل هي موجودة ولها نوعاً من الحركة الأولى خاصة بحركة الذرات الأولى في الخلاء والثانية خاصة بحركة الذرات من أجل تكوين العالم(17) كانت تلك التصورات لها موقف جاء انعكاس إلى حدث الموت والوضع الاجتماعي الذي دفعها إلى النظر في الموت وفي مصير النفس والتي جاء بتصورات تركز من قيمة الجانب الكلي .
وكان فلاطون وأرسطو لهما موقف من هؤلاء من تلك القرون الفكرية والسياسية والتي تركت تأثر على موقفهما . . ونحن نراهم يتوزعون بين النظرة الدينية التي تقوم على أهمية الروح وخلاصها أو التصور الأرسطي للنفس الذي فيه انعكاس لنظرة العلمية وإن تداخل فيها النظرة الدينية والاثنان ظهروا من ظل ظرف سياسي دعم النظرة الكلية على الفردية ، لكن هذا الأمر سوف يزول بزوال دولة المدينة خصوصاً في المدارس المتأخرة التي أكدت على الفردية وبعدها الأخلاقي ، حتى ظهور الموقف المسيحي الذي كان يؤكد على الفردية في ظل الخلاص والقيامة .
أفلاطون :- وهنا لابد نم العرض لأفكار أفلاطون في مسألة النفس والفردية وهذا يحتم علينا تحديد موقف أفلاطون من التيارات الفكرية التي أثرت فيه والتي جعلته يتخذ تلك المواقف التي سوف تحدد موقفه المعرفي وتصوغ تأثيره على من سوف يأخذ بتلك الأفكار من بعده . فقد كان أفلاطون ينتمي إلى الخط الثاني وهذا واضح في مايلي :-
أولها : في الرؤية التجريدية الرياضية التي تعتمد على اللغة والمنطق كمنهج ، إذ كان يرى (لكل شيء طبيعة أو ماهية هي حقيقة يكشفها العقل وراء الأعراض المحسوسة ، ويعبر عنها بالحد ، وإن غاية العلم إدراك الماهيات ، أي تكوين معان تامة الحد . ولقد كان لاكتشافه الحد والماهية أكبر الأثر في مصير الفلسفة ، فقد ميز بصفة نهائية بين موضوع العقل وموضوع الحس وغير روح العلم تغييراً تاماً لأنه جعل الحد شرطاً له ، قضى عليه أن يكون مجموعة ماهية ، ونقله من مقولة الكمية حيث استبان الطبيعيون إلى مقولة فهو موجد (فلسفة المعاني) أو الماهيات المتجلية عند أفلاطون وأرسطو والتي عقلية(18) ، ثم سبغ عليها الشرعية عندما جعلها
(صورة من القوانين العادلة غير مكتوبة رسمتها الآلهة في قلوب البشر(19) ، فإنه بذلك يجعلها لا زمانية ثابتة حتى يسبغ الشرعية على الوضع الاجتماعي الثابت (فثمة أولئك الذين يفكرون وفي القطب الآخر أولئك الذين ينفذون الأشغال مادياً وبين الطرفين الجيش الذي يضمن طاعة المنفذين(20) وقد طغت تلك الرؤية على وظيفة النفس لديه فهي (مبدأ الحياة أي مبدأ حركات منظمة وموجهة نحو غاية معينة) إلا أنه لا يفترض أن تكون الروح ماثلة في كل أجزاء الأجسام الحيّة بالنسبة ذاتها بل يجعلها جزئين الجزء العلوي وهو الذي لا يموت صوّره الصانع نفسه ليروعه بعد ذلك في أيدي الآلهة الثانوية المكلفة بصوغ الأجسام الحية ، وهذا المبدأ الغريب عن البدن مع ذلك يتحكم في بنيانه(21) ، أما الجزء السفلي فهو " الأرواح السفلى " وهي من صنع آلهة الثانوية ، وقد أولجوها في كل الجسم من الرقبة فما دون .
النفس الأولى :- يكمن موقعها في الصدر فوق الغشاء الحاجز وهي مقر الغضب والحماسة الحربية(22) وهي تماثل الجيش في المجتمع .
النفس الثانية :- روح التغذية فهي مفصولة أتم الفصل بحاجب الحاجز عن الروحين العلويتين(23) وهنا تظهر تلك النظرة الاجتماعية المماثلة لتركيب الدولة التي وصفها بالجمهورية " الحاكم " يقابلها " العقل " و " القوة الناطقة " وهي العلوية التي من خلق الصانع ، والثانية المدافعة عن المدينة " الحرس " الجيش يقابل القوة الطبيعية (الشجاعة) وهي أول الأرواح السفلى ، ثم الغذاء تقابله القوة " الشهوة " وهي ثاني الأرواح السفلى وهو يجعل الجزء العلوي يقابل العقل "الانفعال"(24) ومن كل هذا يستدل على إن النفس هي مصدر الحركة وأن من يستمر في تحريك ذاته دائماً لابد أن يكون خالداً في حين الذي يحرك غيره فإنه إنما يتحرك .
ثانيها :- تأثره بالرؤية الدينية القائمة على التخيل وهي تقود إلى النظرة الأورفية التي شقت طريقها إلى الفلسفة على يد فيثاغورس القائلة بالتناسخ وإن الروح تسجن في الجسم تغادر الجسد بعد الموت والقائلة بالتطهير وجدت تلك الأفكار طريقها إلى أفلاطون الذي أقام تصوره بخلود النفس فهي مستقلة عن الجسم تهب الحياة له وتمثل النفس في المركب البشري العنصر الدائم الإلهي الذي لا يتغير بينما يمثل الجسم العابر المتغير الفاني . فالنفس تحرر نفسها تدريجياً من الجسم عن طريق الفلسفة ، وتمت بإرادتها المادة حتى يخلصها موت الجسم تماماً من المادة ويتركها حرة تتأمل المثل(26) إذا كان ذلك بما يتعلق بالنفس ومصيرها وطبيعتها فإن أفلاطون حدد موقفه من الفردية وذلك انطلاقاً من تلك (الكليات) الماهيات الفعلية وداخل التجريد الفعلي جعل من الكل هو الوجود الحقيقي مقابل الوجود الطردي الجزئي متغير فهو عالم الظلال مقابل الكلي عالم المثل عالم الحقيقة .
أرسطو ، تلميذ أفلاطون وأحد أهم النقاد الذين نقدوا مشروع أفلاطون الفلسفي في جوانب كثيرة لقد انطلق من الواقع بالمقارنة باهتمام أفلاطون بعالم يجأوز الحواس ، لقد كان أرسطو رغم غنه داخل الإشكالية نفسها بفعل الكتابات الأورفية والفيثاغورية والبارمنيدية ، إلا أنه يمثل اتجاه داخل هذا النموذج الكبير الذي تهيمن عليه المفاهيم المجردة كماهيات بارمنيدية ومثل أفلاطونية وصور أرسطية(27) . فقد ألف عندما كان عضو في الأكاديمية محأورات له ضاعت بأسرها(28) بعنوان (أوديموس Eudeos) لا يتابع أفلاطون في موضوع خلود النفس فحسب وإنما هو يؤكد كذلك على وجود النفس السابقة على البدن وانتقال النفس من جسم إلى آخر وقد كان أرسطو جزء من إشكالية الفكر الأفلاطوني (إلا إنه لم يعد يسمح للمادة والصور بوجود متفضل في الكون على وجه العموم كذلك في الأنساب ولم يعد ينظر إلى النفس على إنها زائر غريب سجين مؤقتاً في الجسد إن النفس والجسد صارا جانبين لشيء واحد(29) إن أرسطو يجعل دراسة النفس جزءاً من العلم الطبيعي من خلال إيجاد ثنائياً جديداً هو الصورة والمادة ، القوة والعقل ، الفاعل والمنفعل(30) . ثم إنه نظر إلى النفس على إنها مبدأ الكائن الحي (أي مبدأ الحياة) ؛ إنها المحل الأول مصدر الحركة الحية في كل كائن . . فإذا كانت الطبيعة تمزج بعض العناصر بالبعض الآخر لتجعل الحياة به ممكنة ، ولكنه لا يصير حياً بالفعل الأصلي تحل فيه الصورة الجوهرية المسماة بالنفس وهي مرتبطة به ارتباط قوة القطع بالسكين . إن النفس لم كما كانت لدى فيثاغورس وأفلاطون كائناً شخصياً مفارقاً للجسم رحال ينتقل من جسم إلى جسم ولكنها في الجسم كالنظر في العين توجد وتختفي معه(31) فهو هنا يستفيد من معنى النفس Psyche فهو يعني باليونانية شيء قريب من النظر (شعور) وفي الكتابات الفلسفية فإنه يدرك على ما يجب أن تسميه (مبدأ الحياة)(32) وتغدو النفس لدى أرسطو هي كمال أول لجسم طبيعي آلي ذي حياة بالقوة(33) . أرسطو مختلف عن أفلاطون حيث أصبحت مع أرسطو المادة والصورة يظهران معاً بوصفهما جانبين للوجود فكان يرى بين النفس والجسد كعلاقة الصورة بالمادة على عكس ما قاله أفلاطون الذي كان يراها كعلاقة الربان بالسفينة .
فإن أرسطو بهذا يحدد الوحدة الجوهرية للإنسان لأن النفس والبدن جوهرين منفصلين وإنما هما عنصران لا ينفصل الواحد منهما عن الآخر(35) .
وهنا سوف نكون إزاء تصورات يونانية جاءت انعكاس لإشكالية فكرية ذات الجذور الاجتماعية والسياسية والتي فرضت تلك الخيارات التي لخصها مشروعا أفلاطون وأرسطو وتعأونهم فيما بينهم ، لكن هذه التصورات تعارض داخل المنظومة المسيحية التي ارتبط بإشكالية جديدة توحيدية وقفت أمام أرسطو أفلاطون فوجدت الإشكال التالي : فإذا تابعنا أفلاطون في برهانه على جوهرية النفس فإننا نضع وحدة المركب البشري في خطر ، ولو إننا تابعنا أرسطو في برهانه على وحدة الإنسان فقد نخاطر بجوهرية النفس وبخلودها أيضاً(36) .
والفكر المسيحي قد ركز البحث في فكر أفلاطون وتلميذه أفلوطين اللذان قالا في خلود النفس المستقلة عن جسم الإنسان هو النفس التي تستخدم جسماً هنا يأتي مسايرة القديس أوغسطين للحل الأفلاطوني والصعوبات التي واجهتها هذه النظرية ، ولقد بحث آباء الكنيسة عن نظرية تتعلق بروحية النفس فوجدوها في محأورة (فيدون) لأفلاطون كما وجودا معها أيضاً عدة براهين عن خلود النفس ومفهوم لحياة مقبلة ، للثواب والعقاب ، والنجاة والعذاب ، والسماء والجحيم . ولا شك إنه بدون محأورة أفلاطون لم يكن من الممكن أن يظهر كتاب القديس أوغسطين خلود النفس على الإطلاق(37) .
وهنا نجد ضرورة تحديد كيف فهم أوغسطين أفلاطون ووضعه داخل الفكر المسيحي في مجال النفس ، والنفس عند أوغسطين تنقسم من حيث وظيفتها إلى الذاكرة والإرادة والعقل .
1- الذاكرة :- في ما يتعلق بالذاكرة التي تنأولها القديس أوغسطين الباب العاشر من كتابه (الاعترافات) الذي بين منه إن الشعور بالزمن مصدره الذاكرة ، رغم إن الذاكرة لا تحوي تمثلات حية أو صورة تخيلية ؛ بل شعور ، وعلى هذا يقسمها إلى المستويات الآتية :
أولاً :- الزمن يولد الانتباه بالشعور الحاضر .
ثانياً :- الذاكرة وهذه تولد شعور الماضي .
ثالثاً :- التوقع وهذا يولد شعور بالمستقبل .
ثم يصل إلى نتيجة من تحليله لمفهوم الذاكرة مفادها : (إذا كان الإنسان لا يدرك ذاته إلا إذا فكر وهذا يؤدي عن طريق الذاكرة إلى إثبات وجود الذات لأن الذاكرة هي التي تؤكد لنا دوام الذات(38) ثم يجعل هذا التصور للذاكرة وترتيب هذه الأشياء كل في مكانه : الخفيف إلى أعلى والثقيل إلى أسفل أو ستظل الأجرام السمأوية مستقلة حتى تنفد القوة التي تستقيها في مداراتها فتعود إلى المركز . أما الأجسام الحية قفت انتهاء الحياة بمشاركة العقل والعقل نفس تصدر عنها نفوس(43) والعقل أيضاً معرفة لكن اليونان يتخذون العقل وسيلة لفهم الطبيعة وإدراك الأسباب أي المعرفة(44) ثم إنه ذو صلة بالنفس ، كونها تصدر عنه حيث يؤكد إن النفس هي العلة المحركة وهذا أيضاً هو رأي غيره من الفلاسفة .
لكن ديمقريطس اختلف مع انكساغوراس الذي يوحد تماماً بين النفس والعقل .
2- العقل :- لأن عنده الحق ما يبدو للحواس فإن (ديمقريطس) لا يعد العقل القوة التي تعرف الحقيقة ولكنه يوحد بين النفس والعقل(45) لكن (هرقليطس) الذي يرى العقل (نار) لا النار التي ندركها بالحواس ، بل نار إلهية لطيفة للغاية أثيرية ، نسمته حارة حية عاقلة أزلية أبدية هي حياة العالم وقانونه (لوغوس) Logs يعتريها وهن فتصير ناراً محسوسة وبتكاثف بعض النار فتصير بحراً ، وبتكاثف بعض البحر فيصير أرضاً وترفع من الأرض والبحر أبخرة رخية تتراكم سحباً ، فتلتهب وبتقدم منها يرون وتعود ناراً . . . وتتكسر إلى غبر نهارية بموجب قانون ذاتي ضروري (لوغوس) وأما النفس الإنسانية فهي بخار حار والحرارة ضرورية للحي هي قبس من النار الإلهية تدير الجسم كما تدير النار العالم(46) واللوغوس الحقيقة المطلقة فوق التغير الحسي .
أما وظيفة النفس لدى الفيثاغورية إذ تجد عند أفلاطون رأياً لبعضهم يقول إن النفس نوع من النغم ، ومعنى ذلك إن الحي مركب من كيفيات متضادة (الحار والبارد واليابس والرطب) والنغم توافق الأضداد وتناسبها بحيث تدوم الحياة ما دام هذا النغم وتنعدم بانعدامه(48) فإذا كانت النفس نغماً لزم من جهة أخرى أن ليس لها وجود سابق على عناصر البدن والفيثاغورية تؤمن بالتناسخ(49) ويضيف لهم قولين الواحد إن النفس هي الذرات المتطايرة في الهواء والتي تدق عن إدراك الحواس فلا تبصر إلا في شعاع الشمس وتتحرك دائماً حتى عند سكون الهواء . فكأن أصحاب هذا الرأي أرادوا أن يفسر أيضاً كون المولود يجد ساعة ميلاده (ولعلهم ظنوا إن هذا التصور يفسر أيضاً كون المولود يجد ساعة ميلاده) نفساً تحل فيه(50) .
أما أفلاطون ، فإن النفس لديه (هي أصالة مبدأ الحياة أي مبدأ حركات منظمة وموجهة نحو غاية معّينة . فكل ما يتحرك في انتظام حركة ذاتية ، ماثلاً العناصر ، مجرد روحاً ، وهذا ألا يفترض أن تكون الروح ماثلة في كل أجزاء الأجسام الحيّة بالنسبة ذاتها(51) .
وفق هذه الإمكانية تراه يقسم الروح فيجعلها جزئين الجزء العلوي : وهو المبدأ الذي لا يموت في الحيوان المائت ، وقد صوَّره الصانع نفسه ليودعه بعد ذلك في أيدي الآلهة الثانوية ، المكلّفة بصوغ الأجسام الحيّة وهذا المبدأ على كونه غريباً عن الجسد يتحكم مع ذلك في بنيانه ، لأن وظيفة الجسد الجوهرية في أن يخدم المبدأ الروحي بمثابة عجلة . والحال إن العنصر غير المائت من الروح البشرية هو مماثل كل المماثلة روح العالم فهو كروي مثلها ينطوي نظيرها على دائرة (الشيء ذاته) ودائرة (الآخر) ، وله على غرارها ودراية بعض منها يتعلق بالكيان ، والبعض الآخر بالصيرورة ، والروح البشرية شأنها شأن (الروح العالم) هي غير منظورة ولا يستطيع إدراكها إلا العقل(52) ، من الملاحظ هذا التشابه بين الروح العالم والروح البشرية ينظر أفلاطون في كرويتها وهذا يعود بنا إلى تصور الذات المتطايرة والتي ممكن رؤيتها من خلال أشعة الشمس الداخلة إلى الغرفة ، وهذا تصور حي بسيط ثم إنهما أي روح العالم والنفس الإنسانية غير منظورة وهذا تجديد لذلك الإدراك الحسي لذرات الغبار التي لا نراها إلا بتوسط الأشعة الشمسية حيث هنا تجريد الإدراك الحسي والأوساط بين الظاهرة والإدراك ومن ثم تجريده إلى هذا التصور العقلي .
وهكذا جعل بين الجسد والروح تباين فالروح خالدة في حين الجسد فاني وجعله من خلق آلهة ثانوية فيما الروح جعلها ذا مكانة أرفع وهذا يعني تمركزه حول الروح وتهميش دور الجسد وليس لديه ما يسند هذا القول إلى توسط أساطير الخلق(53) .
أما الجزء الثاني " الأرواح السفلى " فهي من صنع آلهة الثانوية ، وقد أولوجوها في كل الجسم من الرقبة مما دون .
فالأولى : يكمن وقعها في الصدر فوق الغشاء الحاجز وهي مقر الغضب والحماسة الحربية وما إليها من المشاعر المماثلة ، وانفصالها عن الروح غير المرئية ليس انفصالاً مطلقاً إذ يمكنها الاتصال بها عن طريق العنق ، ومن ثمّ فهي تفعل التأثر بعض التأثر بفعل العقل .
الثانية : روح التغذية فهي عكس ذلك مفصولة أتم الفصل بحاجب الحجاب الحاجز عن الروحين العلويتين(54) .
رغم إن النفس هي واحدة ؛ إلا أنها تنقسم إلى : النفس العاقلة ، والنفس الغضبية ، والنفس الشهوية ، ويسأل هل يفعل الإنسان بمبادئ ثلاثة مختلفة أم إن مبدأً واحداً بعينه هو الذي يدرك ويغضب ويحس لذات الجسم فيفور إن المبادئ عدة ، لأن شيئاً ما لا يحدث ولا يقبل قفلين متضادين في وقت واحد ومن جهة واحدة فلا يضاف إليه حالات متضادة إلا بتمييز أجزاء فيه ، فيجب أن نميز في النفس جزءاً ناطقاً وجزءاً غير ناطق ، لما نحسه فينا من صراع بين الشهوة تدفع إلى موضوعها والعقل ينهي عنه ، ولنفس السبب يجب أن نميز في الجزء غير النطقي بين قوتين هما الغضب والشهوة : الغضب متوسط بين الشهوة والعقل ، يتجأوز تارة إلى هذا ، وطوراً إلى تلك ، ولكنه يثور بالطبع للعدالة ، ونحن لا نغضب على رجل مهما يسبب لنا من ألم إذا اعتقدنا إنه على حق ، لذلك كثيراً ما يناصر الغضب على الشهوة ، ويعينه على تحقيق الحكمة في ما هو خلو من العقل والحكمة(55) ويقدم مماثلة بين تركيب الدولة الكاملة والنفس فيجعل الحاكم يقابل العقل ، وبالتالي القوة الناطقة والمدافع عن المدينة " الحرس " يقابل القوة الغضبية " الشجاعة " ومقدم الغذاء للمدينة تقابله القوة الشهوة .
ويبدو هذا التقسم الثلاثي مفتعل بعض الشيء من الوجهة النفسية حتى إن الأفلاطونية أنفسهم أحياناً ما ضمو القسمين الأدنيين معاً وانتهوا إلى تقسيم بسيط ثنائي العمل logikon والانفعال alagon(36) .



http://i60.tinypic.com/9u0tad.jpg

بالتوفيق للجميع


موقع وظائف للعرب في تونس والجزائر والمغرب العربي والخليج والشرق الاوسط واوروبا
من هنا (http://www.jobs4ar.com/jobs/index.php)

http://i61.tinypic.com/fem9w0.jpg (http://www.facebook.com/jobs4ar)