المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : التصوف الإسلامي و مراحله



نتائج البكالوريا - bac
10-18-2014, 02:27 PM
التصوف الإسلامي و مراحله




منتدى الفلسفة والعلوم الانسانية منتدى الباكالوريا - منتدى الآداب و العلوم الإنسانيّـة - فلسفيات الباكالوريا آداب وشعب علمية بكالوريا علوم - باكالوريا آداب بكالوريا الجزائر بكالوريا المغرب - منتدى الفلسفة منتدى علم الاجتماع منتدى علم النفس (http://www.jobs4ar.com/jobs/forumdisplay.php?f=95)

منتدى الفلسفة من هنا (http://www.jobs4ar.com/jobs/forumdisplay.php?f=95)


التصوف اصطلاحا رحلة روحانية تعتمد على التحلية والخلوة والتجلي الرباني أو اللقاء العرفاني المتوج بالوصال والكشف الإلهي. وبعني هذا أن المريد السالك كي يحقق مراده ألا وهو الوصول إلى الحضرة الربانية¡ عليه أن يتجرد من أوساخ الدنيا ويتوب إلى الله وأن يتطهر من كل أدران الجسد ويبتعد عن ملذات الدنيا ويترك جانبا شهوات الحياة ومتعها الزائفة الواهمة. وبعد ذلك يختلي بالله مدة طويلة¡ وبعد الاختلاء والمجاهدات الرياضية الوجدانية ينكشف له الوجه الرباني. ويعني هذا أن المريد لكي يصبح قطبا أو شيخا أو يصل إلى المعشوق الرباني لابد أن يسافر في معراجه النوراني عبر مجموعة من المقامات المتدرجة والأحوال الموهوبة لكي يتحقق له الوصال والتجلي الرباني.
ويلاحظ أيضا أن التصوف ليس فرقة مستقلة كما يقول أحمد أمين¡ بل هو عبارة عن نزعة من النزعات الوجدانية ورغبة روحانية من مجموعة من الميولات الإنسانية تجاه حدث أو فعل أو شيء ما. ومن ثم¡ يمكن الحديث عن معتزلي صوفي وأشعري صوفي وفقيه صوفي ونصراني صوفي ومسيحي صوفي... .
ويعرف ابن خلدون التصوف بقوله هو:" العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله تعالى والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة".
ومن هنا¡ فالتصوف عرفان وجداني وشوق ذوقي ومجاهدة ربانية تقوم على الزهد في الحياة وترك الدنيا الواهمة. ويعرف رويم البغدادي التصوف بقوله:" التصوف مبني على خصال: التمسك بالفقر والافتقار¡ والتحقق بالبذل¡ وترك الغرض والاختيار"¡ وقال الكرخي:" التصوف هو الأخذ بالحقائق¡ واليأس مما في أيدي الخلائق"¡ وقال الجنيد:" أن تكون مع الله بلا علاقة"¡ وقال ذو النون المصري:" أن لا تملك شيئا ولا يملكك شيء"¡ وقيل للحصري:" من الصوفي عندك...¿ فقال: الذي لاتقله الأرض ولا تظلله السماء".
2- مواضيع التصوف:
تنحصر مواضيع التصوف حسب ابن خلدون في أربعة أغراض أساسية:
1- المجاهدات وما يحصل من الأذواق والمواجد ومحاسبة النفس على الأعمال لتحصل تلك الأذواق التي تصير مقاما ويترقى منه إلى غيرهº
2- الكشف والحقيقة المدركة من عالم الغيب مثل: الصفات الربانية والعرش والكرسي والملائكة والوحي والنبوة والروح وحقائق كل موجود غائب أو شاهد وتركيب الأكوان في صدورها عن موجودها وتكونهاº
3- التصرفات في العوالم والأكوان بأنواع الكراماتº
4- ألفاظ موهمة الظاهر صدرت من الكثير من أئمة القوم يعبرون عنها في اصطلاحهم بالشطحات تستشكل ظواهرها فمنكر ومحسن ومتأول".
ويعني هذا أن التصوف ينبني على أربعة مقومات جوهرية ¡ وهي: المجاهدات¡ والتجليات الغيبية¡ والكرامات¡ والشطحات. وقد دافع ابن خلدون عن أصحاب المجاهدات والتجليات الغيبية والكرامات الخاصة بالمتصوفة والأولياء الصالحين وميزها عن المعجزات الخاصة بالأنبياء¡ كما اعتبر صاحب الشطحات معذوراº لأنه يكون في حالة سكر وانتشاء ذوقي لايعي مايقوله أو ما يردده من أقوال أو ألفاظ أو مرويات.
ويمكن القول بأن التصوف عبارة عن رحلة روحانية أو سفر معراجي له بداية ونهاية ووسط¡ فالبداية هي التطهير والهروب من الدنيا الزائفة¡ والوسط هي الخلوة والرياضة الروحية والمجاهدة الصوفية¡ أما النهاية فهي اللقاء والوصال اللدني.
3- مراحل التصوف الإسلامي:
أ- مرحلة الزهــد:
ظهر الزهد مع بداية الدعوة الإسلامية في القرن الهجري الأول¡ وكان هذا السلوك يقوم على دعامتين أساسيتين¡ وهما: الزهادة في الدنيا والابتعاد عن ملذات الحياة الزائفة الواهمة¡ والإقبال على الآخرة الباقية الخالدة. والدعامة الثانية تتمثل في حب الله بدون واسطة بشرية.
وهناك العديد من نصوص القرآن والحديث النبوي التي كانت تحث على الزهد والتقشف في الحياة والاستعداد للموت وترك الدنياº لأنها دار غرور وزينة وخداع وخيلاء. يقول تعالى:" ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر"¡ ويقول أيضا:" والمال والبنون زينة الحياة الدنيا"¡ويقول أيضا:" واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض".
ومن الآيات الدالة على الحب الإلهي ما قاله تعالى:" والذين آمنوا أشد حبا لله"¡ وفي الحديث النبوي الشريف:" نعم العبد صهيب! لو لم يخف الله لم يعصه"¡ " فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه".
ومن أهم الزهاد في القرن الأول الهجري الخلفاء الراشدون الأربعة رضوان الله عليهم الذين كانوا يقتدون بحياة الرسول( صلعم)¡ فضلا عن الصحابة العدول والتابعين وخاصة أبا ذر الغفاري وسلمان الفارسي وصهيب وأبا الدرداء ورجال الصفة وغيرهم...
ب- مرحلة التصوف السني:
يقصد بالتصوف السني ذلك التصوف الذي كان يمارسه مجموعة من الزهاد السنيين والذين كانوا يحترمون قواعد الشرع الإسلامي من قرآن وسنة وإجماع ¡ وهم أهل وجدان وكشف عن صدق وإخلاص يبتعدون قدر الإمكان عن الشطحات الغريبة والهلوسات الخارقة والقصص والكرامات الفانطاستيكية البعيدة عن نطاق الحس والعقل والغيب.
ولم يظهر التصوف السني في العالم الإسلامي إلا في القرن الثاني الهجري وخاصة بعد الفتوحات الإسلامية وانتشار الرخاء والغنى والجاه في البيئة الإسلامية التي كثر فيه التمدين العمراني والحضاري¡ وشيدت فيها القصور والبساتين¡ وانتشر اللهو والمجون وكثر الطرب وازدهر شعر الخلاعة¡ فاختلط الناس بالحياة وأقبلوا على متع الدنيا وزينتها الزائفة. فظهر كثير من العلماء والأتقياء الذين يخافون الله ويطمعون في رحمته وغفرانه وتوبته النصوحة¡ فتركوا الدنيا وانعزلوا عن الناس والسلاطين وابتعدوا عن إغراءت الدنيا ومباهجها الفاتنة فاختاروا الخلوة الربانية وتمثلوا طريق الشرع الرباني وساروا على نهج الهدي النبوي وجعلوه مسلكا لهم في التعبد والمحاسبة والعبادة والاعتكاف .
ومن أهم كتاب التجربة الصوفية وجامع نصوصها في هذه المرحلة نستحضر القشيري في رسالته و فريد العطار في" تذكرة الألباب" والطوسي في كتابه" اللمع"... ويبقى الحارث المحاسبي هو العميد الأول للتصوف السني حسب محمد عابد الجابريº لكونه لم ينحرف في عملية التأويل ولم يغال فيها كما فعل المتصوفة السنيون¡ زد على ذلك أنه وقف صامدا في وجه التشيع الباطني.
ومن أهم المتصوفة السنيين الذين يذكرهم التاريخ نلفي: المحاسبي والقشيري والحسن البصري والغزالي والسراج والجنيد وابن المبارك وعبد القادر الجيلاني وأحمد البدوي وأحمد الرفاعي وربيعة العدوية التي تقول في الحب الإلهي:

أحبـــك حبيــــن: حب الهوى
وحبــا لأنــك أهـــل لـــــذاكا
فأما الذي هو حـــــب الهوى
فشغــل بذكرك عمن سواكـا
وأما الذي أنــــــــت أهل له
فكشفك لي الحجب حتى أراكا
فلا الحمد في ذا ولا ذاك لـي
ولكــن لك الحمد في ذا وذاكا

وإذا كان الحسن البصري معروفا بنزعة الخوف حتى قال معاصروه:" إنه كان دائما كأنه عائد من جنازة" ¡ فإن ربيعة العدوية معروفة بنزعة الحب . فلم تكره ربيعة العدوية إبليس لكي لاتترك الكراهية في قلبها في موازاة مع صفة الحب¡ فمن أجل الحفاظ على حبها لله أحبت إبليس لكي تصفي قلبها من الحقد والكراهية على السواء . وقالت شعرا كثيرا في الحب الرباني منه هذان البيتان:

إني جعلتك في الفؤاد محدثي وأبحت جسمي من أراد جلوســـي
فالجسم مني للجليس مؤانس وحبيــــــــب قلبي في الفؤاد أنيسي

وقد روى القشيري في رسالته أن ربيعة العدوية قالت في مناجاتها:" إلهي تحرق بالنار قلبا يحبك¿" ¡ فهتف بها هاتف يقول:" ماكنا نفعل هذا¡ فلا تظني بنا ظن السوء".
ومن أهم المتصوفة السنيين الآخرين الذين استحضروا الشرع الرباني في تجاربهم العرفانية نذكر: إبراهيم بن الأدهم وداود الطائي والفضيل بن عياض وشقيق البلخي وكلهم توفوا في القرن الثاني الهجري¡ ومعروف الكرخي المتوفى سنة200هـ ¡ وابن سليمان الداراني المتوفى سنة215 هـ¡
وسري السقطي(253هـ) صاحب فكرة الحقائق الإلهية والتوحيد¡ والجنيد المتوفى سنة 297هـ الذي يعد أول من صاغ المعاني الصوفية وكتب في شرحها¡ والغزالي في القرن الخامس الهجري الذي حاول التوفيق بين الشرع والتصوف وقام بعقد الصلة بين الخطاب الفقهي الذي كان يحارب المتصوفة والخطاب العرفاني الذي كان يؤمن بالباطن. وقد تجلى هذا التوفيق واضحا في كتابيه:" المنقذ من الضلال"¡ وكتابه:" إحياء في علوم الدين".
ومن أهم قواعد التصوف السني التي يرتكن إليها احترام مبادئ القرآن والسنة والإجماع¡ وتطبيق شعائر الدين والسعي في الدنيا بحثا عن الرزق وتمجيد العمل والشغلº لأنه زاد الدنيا والآخرة¡ علاوة على احترام خصوصيات الشرع في تأويل الظاهر والباطن وعدم إظهار ذلك لعامة الناس. كما يبتعد هذا النوع من التصوف عن الشطحات الصوفية والكرامات الخارقة التي تخالف الشرع الرباني. ويعلي المتصوفة السنيون من قيمة الأنبياء بالمقارنة مع الأولياء والشيوخ والأقطاب.
وفي الأخير¡ يمتح التصوف السني مبادئه وتعاليمه ومجاهداته الذوقية من المصادر الداخلية للفكر الإسلامي أي من القرآن والسنة.
ج- مرحلة التصوف الفلسفي:
لم يظهر التصوف الفلسفي في العالم الإسلامي إلا في القرن الثاني الهجري إبان الدولة العباسية مع اختلاط مجموعة من الشعوب والأجناس مع العرب المسلمين ( الفرس والهنود والروم...)¡ وازدهار حركة الترجمة بتأسيس بيت الحكمة في عهد المأمون لنقل الفكر اليوناني¡ وانتشار المدارس الدينية والفلسفية في معظم أرجاء الإمبراطورية الإسلامية ¡ فساعد كل هذا في تلقيح التصوف الإسلامي بملامح خارجية أبعدته عن الصواب وجعلته فكرا منحرفا متأثرا بالأفكار الأجنبية الضالة كالغنوصية والهرمسية وأفكار الشيعة والرافضة المبتدعين. وفي هذا يقول أحمد أمين:" ولكن لما فتحت الفتوح الإسلامية واختلطت الثقافات المختلفة وكانت تموج في المملكة الإسلامية الفلسفة اليونانية¡ وخاصة الأفلاطونية الحديثة والنصرانية والبوذية والزرادشتية¡ وجدنا أن هذا الزهد وهذا الحب الإلهي يتفلسفان¡ وتتسرب إلى التصوف بعض تعليمات من كل هذا.
فالفلسفة كانت منتشرة في الشرق منذ فتوح الإسكندر. وكانت لها مدرسة في حران وهي التي تسمت بالصائبة. وقد ترجموا كتبا يونانية كثيرة إلى السريانية ثم إلى العربية.
كما كانت هناك فلسفة هندية وفارسية¡ وإن كانت فلسفتهم أقل انتشارا من الفلسفة اليونانية. وكانت للهند مدرسة في جنديسابور كانت تدرس فيها علوم اليونان والهند على السواء.
كل هذه كانت تتسرب منها تعاليم إلى التصوف بعد عصره الأول."
ومن أهم النظريات في التصوف الفلسفي نظرية الفناء في الله وهي نظرية أبي يزيد البسطامي الفارسي وتحيل على فكرة الاتصال بالله والتفكير فيه¡ وهذه الفكرة معروفة في الديانة البوذية باسم نرڤانا.
وقوام هذه النظرية التي انتشرت بين الفلاسفة المتصوفين أن الفناء يتخذ مظهرين: الأول بتغير أخلاقي تبتعد فيه الروح عن أدران الجسد والابتعاد عن الشهوات ولذات الحياة¡ والمظهر الثاني ينصرف الفكر فيها عن كل الموجودات إلى التفكير في خالقها وموجدها والاتصال به عرفانا. ومن ثم¡ فالمظهر الأول نفساني والثاني عقلاني. ويصف السري السقطي من وصل به الأمر إلى حالة الفناء بقوله:" إنه لو ضرب بسيف على وجهه لما شعر به".
وإذا انتقلنا إلى تصور ذي النون المصري فقد تأثر بأفكار أفلوطين صاحب كتاب "التسوعات" أو "الربوبية" الذي نقله عبد المسيح بن ناعمة الحمصي وأصلحه لأحمد بن المعتصم بالله أبو يوسف يعقوب الكندي¡ وانتفع بهذا الكتاب ابن سينا وشرحه فنسبه خطأ لأرسطو.
ومن أهم الأفكار التي كان يقول بها أفلوطين وهو صاحب المدرسة الأفلوطينية الحديثة بمصر ذات المنابع اليونانية والغنوصية والهرمسية والزرادشتية واليهودية والبوذية والمسيحية نجد نظرية الفيض وانبثاق النور والتجلي وغير ذلك... يقول أفلوطين:"إني ربما خلوت بنفسيº وخلعت بدني جانيا وصرت كأني جوهر متجرد بلا بدن¡ فأكون داخلا في ذاتي¡ راجعا إليها¡ خارجا من سائر الأشياء¡ فأكون العلم والعالم والمعلوم جميعا¡ فأرى في ذاتي من الحسن والبهاء والضياء ما أبقى له متعجبا بهتا...".
ويعرف لذي النون كرامات خارقة وله كلام طويل في المقامات والأحوال ويقال إنه وضع فكرتها . أي إن المريد أو السالك أو العارف الفقير عند ذي النون المصري لابد أن يمر بمجموعة من الأحوال والمقامات في سفره الروحاني وتعراجه الصوفي لكي يصل إلى الحقيقة الربانية العرفانية القائمة على التجلي وانبثاق النور الرباني والانكشاف الألوهي. ويسمى الذي يعبر هذه المراحل بالسالك وعملية السلوك تسمى سفرا أو حجا¡ وسميت المراحل بالمقامات والصفات الموهوبة أحوالا. وقد جعلها الطوسي في كتابه" اللمع" سبعا ¡ كل مقام يسلم لمقام آخر بشكل متتابع¡ وهذه المقامات هي: مقام التوبة¡ ومقام الورع¡ ومقام الزهد¡ ومقام الفقر¡ ومقام الصبر¡ ومقام التوكل¡ ومقام الرضى.
أما الأحوال فمنها: التأمل والقرب والمحبة والخوف والرجاء والشوق والأنس والطمأنينة والمشاهدة والتعين. وبالتالي¡ فالأحوال مواهب والمقامات مكاسب.
ومن أهم النظريات الصوفية وحدة الوجود لابن عربي الأندلسي ¡ ومفادها أن المحب يفنى في محبوبه ويحبه بكل قلبه حتى لايكون هناك فرق بين محب ومحبوب. كما أن هذه النظرية الصوفية ترفض نظرة الفلاسفة في رؤيتهم الأنطولوجية عندما يقسمون الوجود قسمين: الله والعالم الموجود¡ أي إن هناك ثنائية وجودية: واجب الوجود وممكن الوجود¡ ويترجم هذا أن الواحد تصدر عنه الكثرة ¡أي كثرة المخلوقات والمصنوعات¡ بينما ابن عربي يرى أن هذه الكثرة لاترى إلا على مستوى الظاهر ¡ ولكن على مستوى الباطن هناك وحدة وجودية تنصهر فها المخلوقات مع الخالق الأزلي. أي إن هناك وجودا واحدا يلتحم فيه العاشق الصوفي مع المعشوق الرباني في وحدة من الاتحاد والشوق الروحاني. ومتى كانت هناك كثرة فتعود في الأصل إلى هذه الوحدة الصوفية. وتشبه هذه النظرية فكرة أبي يزيد البسطامي صاحب نظرية الفناء¡ وهي أن العاشق يفنى في حبه للمحبوب.
يقول ابن العربي معبرا عن إيمانه الكبير بكل المعتقدات وأديان الناس¡ مبينا أن التعدد في العقائد يدل في جوهره على وحدة الحب والاتصال والوجود:

عقـد الخلائق في الإله عقائدا وأنا اعتقدت جميع ما اعتقدوه

ويقول أيضا في التسامح الديني والحب الإلهي:

لقد صار قلبي قابلا كل صورة فمرعى لغـــــزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طـــــائـف وألواح توراة ومصحـــف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجهــت ركائبــه فالحـــب ديني وإيماني

وتدخل هذه الأبيات الشعرية ضمن الشطحات التي كان يرفضها الفقهاء وتجعلهم يحاربون المتصوفة الغلاة بكل صرامة وقسوة¡ وإن كان ابن خلدون قد دافع عن أصحاب الشطحات وأوجد لهم عذرا ومخرجا في كونهم يتفوهون بهذه الأقوال الغريبة حينما يكونون في حالة سكر واشتياق وغياب للوعي وانبثاق النور الرباني.
ومن الذين توسعوا في وحدة الوجود نستحضر ابن سبعين والعفيف التلمساني وغيرهما.
وإذا انتقلنا إلى الحلاج فهو صاحب نظرية الحلول التي قوامها أن الله جل جلاله قد حل في روح الإنسان¡ فأصبحا ذاتا واحدة متحدة على غرار الفكرة النصرانية المسيحية التي تؤمن بامتزاج الطبيعة الإلهية بالطبيعة الناسوتية¡ أي إن اللاهوت حل في الناسوت فاختلطا كما اختلط الماء بالخمرة¡ وقد قال الحلاج:" أنا الله¡ وما في الجبة إلا الله". وهذا الاعتراف الظاهري هو الذي أودى بحياته ليصلب أمام الناس باعتباره شهيد التأويل والتصريح.
ويرفض ابن الفارض حلولية الحلاج ويفضل بدلا منها نظرية الاتحاد في تائيته الشعرية المعروفة:

متى حلت عن قــــولي أنا هي أو قل وحاشا لمثلي أنها فيّ حلــت
وفي الصحو بعد المحو لم أك غيرها وذاتي بذاتي إذ تحلت تجلـت

ويرى أحمد أمين أن وحدة الوجود ظهرت في القرن السادس والسابع الهجريين مع ابن الفارض وابن عربي كرد فعل على الفكرة الاثنينية الني تقسم الوجود إلى واجب الوجود وهو الله وممكن الوجود وهو العالم.. وبالتالي¡فـــ"ليست مظاهر العالم المختلفة إلا مظاهر لله تعالى¡ أي ليس لله وجود إلا الوجود القائم بالمخلوقات وليس هناك غيره ولا سواه¡ وأن العبد إنما يشهد السوي مادام محجوبان فإذا انكشف الحجاب رأى أنه لا أثر للغيرية ولا للكثرة¡ وعاين الرائي عين المرئي والمشاهد عين المشهود. ولهم في ذلك كلام كثير وشطحات بعيدة المدى.".
وهناك نظريات صوفية أخرى كنظرية الإشراق عند السهروردي ونظرية الإنسان الكامل ونظرية الحقيقة المحمدية ونظرية القطب الصوفي. وهذه النظريات الصوفية سنخصص لها- إن شاء الله- في المستقبل مقالات مستقلة.
د- التصوف المذهب أو الطرقي:
بعد أن كان التصوف سلوكا فرديا انتقل ليكون مسلكا جماعيا ¡ وسيكون للمريد العارف قطبا يهديه ويرشدهº لأنه من الصعب أن يتعلم المريد في غياب الشيخ والقطب أو يسافر بعيدا في حضرته الصوفية وتعراجه الذوقي دون مرافق يساعده على تحمل مشقة السفر أو الحج. ومن هنا¡ ظهرت طرق ومذاهب صوفية كثيرة تنسب إلى شيخ بعينه أو قطب بارز له أتباع كثيرون يتبعون مسلكه في المعرفة اللدنية¡ وبعد ذلك¡ ينتقل مشعل الوراثة الصوفية أو سبحة الولاية من شيخ إلى آخر بعد الإجازة والتوصية.
وقد انتشرت في العالم الإسلامي كثير من الطرائق الصوفية قديما وحديثا واقترنت بالزوايا والروابط والمساجد¡ فهناك الطريقة الأحمدية التي تنسب إلى أحمد البدوي وانتشرت في مصر إبان الظاهر بيبرس¡ وهناك طريقة صوفية أخرى تنسب إلى أبي العباس أحمد بن عمر المرسي من مرسية بالأندلس¡ وهي بدورها انتشرت بمصر. كما توجد عدة طرائق صوفية مشهورة كالطريقة التيجانية والطريقة الشاذلية والطريقة العلوية والطريقة القادرية والطريقة البودشيشية والطريقة الدلائية والطريقة الجيلانية والطريقة العيسوية والطريقة الناصرية والطريقة الحراقية...
4- أبعاد التصوف المنهجية:
إذا كان الفقهاء يعتمدون على ظاهر النص وعلماء الكلام يستندون إلى الجدل الافتراضي والفلاسفة يعتمدون على العقل والمنطق أو البرهان الاستدلالي¡ فإن المتصوفة يعتمدون على الذوق والحدس والوجدان والقلب. أي إن لغتهم لغة باطنية تنفي الوساطة وترفض الحسية وتتجاوز نطاق الحس والعقل إلى ماهو غيبي وجداني وذوقي . ومن ثم¡ فاللغة قاصرة في ترجمة التجربة الصوفية¡ لذلك يلتجئ المتصوفة إلى مصطلحات رمزية لها سياقات خاصة¡ وهذه المصطلحات كثيرة يصعب حصرها استقيت من مجالات عدة ¡ ومن هنا يمكن الحديث عن اللفظ المشترك داخل الحقل الصوفي . ومن هذه العلوم التي نهلت منها الكتابة أو الممارسة الصوفية نذكر: : علوم الشريعة¡وعلوم العقيدة¡ والآداب¡ وعلوم اللغة¡ والفلسفة¡ وعلوم الآلة فضلا عن القرآن والسنة وعلم الحروف والكيمياء...
ومن مشاكل الاصطلاح الصوفي التعدد في الألفاظ والتعدد في المعاني والاختلاف بين الصوفية في معنى مفهوم ما¡ وهذا راجع لاختلاف التجربة الصوفية من تجربة إلى أخرى.
وعليه¡ فهناك مجموعة من القضايا والإشكاليات التي يجب الوقوف إليها وهي: قضية العرفان وثنائية الظاهر والباطن وإشكالية التأويلº لأنها هي التي ستميز الخطاب الصوفي عن الخطاب الفلسفي والخطاب الفقهي والخطاب الكلامي. فهذا أبو نصر السراج الطوسي ¡ وهو من أوائل المؤلفين في تاريخ التصوف في الإسلام¡ يعتبر المتصوفة من علماء الباطن وبالتالي¡ فالتصوف هو علم الباطن¡ بينما الفقه هو علم الظاهر¡ وفي هذا يقول في كتابه" اللمع":"إن العلم ظاهر وباطن. وهو علم الشريعة الذي يدل ويدعو إلى الأعمال الظاهرة والباطنة. والأعمال الظاهرة كأعمال الجوارح وهي العبادات والأحكام... وأما الأعمال الباطنة فكأنما القلوب وهي المقامات والأحوال... ولكل عمل من هذه الأعمال الظاهرة والباطنة علم وفقه وبيان وفهم وحقيقة ووجد... فإذا قلنا: علم الباطن أردنا بذلك علم أعمال الباطن التي هي الجارحة الباطنة وهي القلب¡ وأما إذا قلنا: علم الظاهر أشرنا إلى علم الأعمال الظاهرة التي هو الجوارح الظاهرة وهي الأعضاء¡ وقد قال تعالى:" وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة"( لقمان20). فالنعمة الظاهرة ما أنعم الله تعالى بها على الجوارح الظاهرة من فعل الطاعات¡ والنعمة الباطنة ما أنعم الله تعالى بها على القلب من هذه الحالات. ولا يستغني الظاهر عن الباطن ولا الباطن عن الظاهر¡ وقد قال الله عز وجل" ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم"( النساء83)¡ فالعلم المستنبط هو العلم الباطن وهو علم أهل التصوف لأن لهم مستنبطات من القرآن والحديث وغير ذلك... فالعلم ظاهر وباطن والقرآن ظاهر وباطن¡ وحديث رسول ( صلعم) ظاهر وباطن والإسلام ظاهر وباطن".
ومن هنا¡ فإن المتصوفة يتجاوزون الحس والظاهر إلى استكناه القلب واستنطاق مقاماته وأحواله لتأسيس تجربة روحانية وتأصيل حضرة ربانية قوامها العشق والمحبة والزهادة وتأويلها عرفانيا ولدنيا¡ بينما يكتفي الفقهاء وعموم الناس بظاهر النصوص وسياقاتها السطحية مخافة من التأويل وإثارة الفتنة في المجتمع.
5- مصادر التصوف
يمكن الحديث عن نوعين من المصادر التي كانت وراء نشوء التصوف الإسلامي: مصادر داخلية تتمثل في القرآن الكريم والسنة والظروف السياسية والاجتماعية التي كانت تمر منها الأمة الإسلامية¡ والمصادر الخارجية التي تتمثل في الفكر الغنوصي والهرمسية والأفلاطونية المحدثة والتشيع والفكر الباطني والتيارات الهندية والفارسية والمسيحية واليهودية. فإذا كان الزهد والتصوف الإسلامي السني لهما جذور داخلية بدون شك ¡ فإن التصوف الفلسفي كما عند الحلاج وأبي يزيد البسطامي وابن عربي وابن سبعين وابن الفارض والسهروردي على الرغم من طابعه السني والشرعي في الكثير من النصوص و المواقف فإن له جذورا خارجيةº نظرا لتأثره بالفكر الهرمسي كما يقول الدكتور عابد الجابري في كتابه"بنية العقل العربي":"وإنما ذكرنا الإسماعيلية هنا لأنه عنهم كان ابن العربي يأخذ مواد عرفانيته¡ ومن نفس النبع الذي غرفوا منه كان يستسقي الهرمسية.".
ويذهب ابن خلدون في كتابه "المقدمة" إلى أن المتصوفة المتأخرين قد تأثروا بالشيعة الغلاة والفكر الباطني المنحرف¡ يقول ابن خلدون في هذا الصدد:" إن هؤلاء المتأخرين من المتصوفة المتكلمين في الكشف وفيما وراء الحس توغلوا في ذلك فذهب الكثير منهم إلى الحلول والوحدة وملأوا الصحف منه مثل: الهروي في كتابه "المقامات" وله غيره وتبعهم ابن العربي وابن سبعين وتلميذهما ابن العفيف وابن الفارض والنجم الإسرائيلي في قصائدهم وكان سلفهم مخالطين للإسماعيلية المتأخرين من الرافضة الدائنين أيضا بالحلول وإلهية الأئمة مذهبا لم يعرف لأولهم فأشرب كل واحد من الفريقين مذهب الآخر واختلط كلامهم وتشابهت عقائدهم".
وتحيل نظرية الحلول ومحبة الله ولبس الصوف على العقيدة المسيحية ¡ بينما تحيل فكرة الفناء على النرڤانا البوذية¡ وتشير أفكار ذي النون المصري إلى تصورات أفلوطين¡ وتختلط أفكار ابن عربي بأفكار الشيعة الباطنية والهرمسية الشرقية.
وقد دفعت الشطحات التي كان ينطق بها المتصوفة كثيرا من المستشرقين ليربطوا التصوف الإسلامي بمؤثرات خارجية هندوسية وبوذية وزرادشتية مثل شطحات أبي يزيد البسطامي الذي قال:" رفعني- الله- مرة فأقامني بين يديه وقال لي يا أبا يزيد:إن خلقي يحبون أن يروك. فقلت: زيني بوحدانيتك¡ والبسني أنانيتك¡ وارفعني إلى أحديتك¡ حتى إذا رآني خلقك قالوا: رأيناك ¡ فتكون أنت ذاك ولا أكون أنا هناك". ومن ذلك أيضا قوله:" أول ما صرت إلى وحدانيته فصرت إلى وحدانيته فصرت طيرا جسمه من الأحدية وجناحاه من الديمومة¡ فلم أزل أطير في هواء الكيفية عشر سنين حتى صرت إلى هواء مثل ذلك مائة ألف مرة. فلم أزل أطير إلى أن صرت في ميدان الأزلية فرأيت فيها شجرة أحدية¡ ثم وصفت أرضها وأصلها وفرعها وأعضاءها وثمارها...فنظرت فعلمت أن هذا كله خدعة".
فهذه الشطحات كثيرة في متون العرفانيين أمثال: جلال الدين الرومي والسهروردي وابن عربي وأبي يزيد البسطامي والحلاج وابن الفارض وابن سبعين...
5- تقـويم التصوف:
نشب خلاف كبير حول قيمة التصوف في المجتمع العربي الإسلامي¡ فهناك من يدافع عنه ويعتبره فعلا إيجابيا ¡ وهناك من ينظر إليه نظرة سلبية ومن هؤلاء: الدكتور محمد عابد الجابري الذي اعتبر الفكر الصوفي العرفاني فكرا خرافيا أسطوريا وسلوكا تواكليا¡ فالحقيقة عند الصوفية" ليست الحقيقة الدينية ولا الحقيقة الفلسفية ولا الحقيقة العلمية¡ بل الحقيقة عندهم هي الرؤية السحرية للعالم التي تكرسها الأسطورة".
ولكن هناك من يشيد بالفكر الصوفي ويعتبره مسلكا للنجاة والخروج من أزمات الحياة المعاصرة¡ لأن مشكلاتنا مشكلات أخلاقية وأزمات روحية¡ كما أن الكثير من الطرق الصوفية قامت بدور هام في ميدان الجهاد وطرد المستعمر وحماية ثغور الوطن¡ وساهمت في خدمة المجتمع عن طريق الإنفاق والإحسان. زد على ذلك أن التصوف أصبح اليوم علاجا سيكولوجياº لأنه يحرر الإنسان من شرنقة أمراضه العضوية والنفسية ويخرجه من عزلته الاجتماعية ويداويه من القلق والكآبة والوحدة والاغتراب الذاتي والمكاني.


http://i60.tinypic.com/9u0tad.jpg

بالتوفيق للجميع


موقع وظائف للعرب في تونس والجزائر والمغرب العربي والخليج والشرق الاوسط واوروبا
من هنا (http://www.jobs4ar.com/jobs/index.php)

http://i61.tinypic.com/fem9w0.jpg (http://www.facebook.com/jobs4ar)