المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الدول الاشتراكية



نتائج البكالوريا - bac
08-30-2014, 06:05 PM
الدول الاشتراكية


هناك اسطورة واسعة الانتشار تقول ان الماركسية صعبة.
وهى اسطورة يتم الدعاية لها من قبل اعداء الاشتراكية - مثلا هارولد ويلسون زعيم حزب العمال البريطانى السابق الذى يفاخر بانته لم يستطع ابدا ان يقرا اكثر من الصفحة الاولى من كتاب كارل ماركس "راس المال".
وهى ايضا اسطورة يشجعها صنف خاص من الاكاديميين الذين يعلنون عن انفسهم كماركسيين:
فهم يزرعون عمدا جمل مبهمة وتعبيرات غامضة من اجل اعطاء الانطباع انهم يمتلكون معرفة خاصة لايمتلكها الاخرون.
لذلك لايثير الدهشة ان العديد من الاشتراكيين الذين يعملون 40 ساعة فى الاسبوع فى المصانع والمناجم او المكاتب ياخذونه امرا مسلما به ان الماركسية شىء لايمكن ان يكون لديهم الوقت او الفرصة لفهمه.
في الحقيقة ان الافكار الرئيسية للماركسية بسيطة للغاية.
فهى تفسر المجتمع الذى نعيش فيه كما لا تستطيع اى منظومة اخرى من الافكار. وهى تعطى معنى لعالم خربته الازمات، لما فيه من فقر في وسط الوفرة، لانقلاباته وديكتاتورياته العسكرية، و للطريقة التى يمكن بها ان ترسل بعها الاختراعات الرائعة الملايين لطوابير الإعانات والصدقات، للديمقراطيات التى تمول من يقومون بالمذابح وللدول الاشتراكية التى تهدد شعوب بعضها بالأسلحة النووية.
في نفس الوقت، فان مفكري النظام الذين يسخرون من الأفكار الماركسية يطاردون بعضهم البعض في لعبة التخصص الأعمى المجنونة بشكل لا يفسرون ولا يشرحون به شيئا.
إلا انه على الرغم من أن الماركسية ليست صعبة تواجه من يقرا كتابات ماركس للمرة الأولى مشكلة. فكل ما كتبه ماركس كان منذ اكثر من قرن مضى.
فاستخدم لغة عصره، بشكل كامل بالرجوع للأفراد والأحداث التي كانت وقتها معروفة للجميع بينما الآن لا يعرفها إلا المؤرخون المتخصصون.
واتذكر حيرتى الشخصية - عندما كنت بالمدرسة - عندما حاولت قراءة كراس ماركس الثامن عشر من بروميير لويس بونابرت. فلم اكن اعرف ماذا تعنى بروميير او من يكون بونابرت. وما اكثر الاشتراكيين الذين تخلوا عن محاولاتهم للامساك بالماركسية بعد مثل هذه التجربة!!
هذا هو المبرر وراء هذا الكتاب القصير.
فهو يسعى لتقديم مقدمة للافكار الماركسية تجعل من السهل على الاشتراكيين ان يتابعوا ما كان ماركس بصدده وان يفهموا تطور الماركسية من وقتها على يد فريدريك انجلز وروزا لوكسمبورج وفلاديمير لينين وليون تروتسكى و جمهرة كاملة من المفكرين الاقل شانا.
اغلب هذا الكتيب ظهر لاول مرة على شكل سلسلة مقالات فى جريدة "العامل الاشتراكى" بعنوان "الماركسية مبسطة". لكننى اضفت مادة جوهرية حديثة.
قليل منها جئت به بالجملة من محاولتين سابقتين لتقديم عرض مبسط للافكار الماركسية: كتاب دنكان هالاس " معنى الماركسية" و " السلسلة التعليمية الماركسية" لفرع حزب العمال الاشتراكيين البريطانى فى نورويتش.
نقطة اخيرة، هى ان ضيق المساحة منعنى من التعرض لبعض الاجزاء الهامة من التحليل الماركسى للعالم المعاصر. ويحتوى ملحق هذا الكتيب على مراجع للمزيد من القراءة حولها.
كريس هارمان
الفصل الثالث عشر:
الاشتراكية والحرب
اتسم القرن الحالي بأنه قرن الحروب.
لقد قتل عشرة ملايين شخص في الحرب العالمية الأولى، 55 مليون في الحرب العالمية الثانية، و2 مليون في الحرب في الهند الصينية.
أما الآن، فإن القوتين النوويتين العظميين في العالم، وهما أمريكا وروسيا، تمتلكان وسائل تدمير الجنس البشري بكامله عدة مرات.
إن تفسير هذا الرعب يعتبر من الأمور العسيرة بالنسبة لأولئك الذين ينظرون إلى المجتمع القائم كأمر مسلّم به.
فهؤلاء مدفوعون لاستنتاج أن هناك دافع فطري أو غريزي في البشر يقودهم للاستمتاع بالمذابح الجماعية.
ولكن الحقيقة هي أن الجنس البشري لم يعرف الحرب دائما.
لقد لاحظ جوردون شيلد عن أوروبا في العصر الحجري ما يلي:
"يبدو أن أهل الدانوب الأوائل كانوا قوما مسالمين، فأسلحة الحرب بالمقارنة بأدوات الصيادين لم تكن موجودة في مقابرهم.
إن قراهم افتقدت للدفاعات العسكرية."
ولكن، "في المراحل الأخيرة للعصر الحجري الحديث، أصبحت المعدات الحربية هي الأكثر ظهورا…"
إن الحرب لا تنتج عن عدوانية بشرية فطرية، بل هي نتيجة انقسام المجتمع إلى طبقات. فمنذ 5000 أو 10000 سنة مضت وعندما ظهرت طبقة من أصحاب الأملاك لأول مرة، كان عليها العثور على وسيلة للدفاع عن ثروتها.
بدأت تلك الفئة في إنشاء قوات مسلحة ثم دولة أضحت منفصلة عن باقي المجتمع؛ وفيما بعد، أصبح نهب مجتمعات أخرى وسيلة ثمينة للمزيد من تراكم الثروة.
عني انقسام المجتمع إلى طبقات أن الحرب أصبحت مظهرا دائما للحياة الإنسانية.
لم تستطع الطبقات الحاكمة المالكة للعبيد في اليونان القديمة وروما البقاء بدون حروب مستمرة والتي كانت توفر المزيد من العبيد.
وكان على ملاك الأراضي الإقطاعيين في العصور الوسطى أن يتسلحوا بقوة حتى يخضعوا عبيد الأرض المحليين، وأيضا ليحموا غنائمهم من ملاك الأراضي الإقطاعيين الآخرين.
وعندما بدأت الطبقات الرأسمالية الحاكمة الأولى في الظهور منذ 300 أو 400 سنة مضت، اضطرت هي أيضا اللجوء للحرب باستمرار.
لقد كان عليهم خوض حروب مريرة في القرون 16، 17، 18 و19 من أجل إرساء سيادتهم على بقايا الحكام الإقطاعيين القدماء.
نجد مثلا أن أكثر الدول الرأسمالية نجاحا مثل بريطانيا استخدمت الحرب لتوسيع ثروتها والوصول إلى ما وراء البحار، ونهب الهند وأيرلندا ونقل ملايين البشر كعبيد من أفريقيا إلى أمريكا، وهي في كل ذلك كانت تحول العالم كله إلى مصدر للنهب لنفسها.
وهكذا، فلقد بنى المجتمع الرأسمالي نفسه عن طريق الحرب.
فلا عجب إذن أن كل أولئك الذين عاشوا فيه آمنوا بأن الحرب هي شيء "حتمي" و"عادل" في نفس الوقت.
ومع ذلك، فالرأسمالية لا يمكن أبدا أن ترتكز بالكامل على الحرب.
لقد أتت معظم ثروتها من خلال استغلال العمال في المصانع والمناجم، وكان هذا شيئا يتعطل أحيانا عندما ينشب صراع داخل "البلد الأم" ذاته.
لقد أرادت كل طبقة رأسمالية وطنية السلام في بلدها بينما تشنّ الحرب في الخارج.
ولذلك، فبينما شجعت تلك الطبقات التمسك بـ"الفضائل العسكرية"، هاجمت أيضا وبضراوة "العنف".
إن أيديولوجية الرأسمالية تمزج بطريقة متناقضة تماما وبإفراط العبارات العسكرية والسلمية.
أما في القرن الحالي، فقد أصبحت الاستعدادات للحرب أكثر أهمية للنظام من أي وقت مضى. كان الإنتاج الرأسمالي في القرن التاسع عشر مرتكزا على الشركات الصغيرة التي تنافس بعضها البعض، كما كانت الدولة مجرد مؤسسة صغيرة تنظم علاقات تلك الشركات ببعضها وبينها وعمالها.
ولكن في القرن الحالي، ابتلعت الشركات الكبيرة معظم الشركات الصغيرة قاضية بذلك على المنافسة داخل كل دولة. فالمنافسة بدأت تتجه نحو العالمية أكثر وأكثر بين الشركات العملاقة في دول مختلفة.
لا توجد دولة رأسمالية عالمية لتنظيم هذه المنافسة.
ولكن بدلا من ذلك، فإن كل دولة على حدة تبذل كل الضغوط الممكنة لمساعدة طبقة الرأسماليين بها على الحصول على ميزات ليتفوقوا على منافسيهم الأجانب.
فصراع الحياة والموت بين الرأسماليين المختلفين يمكن أن يصبح صراعا للحياة والموت بين دول مختلفة، كل بترسانتها الضخمة من الأسلحة المدمرة.
أدى هذا الصراع مرتين إلى حروب عالمية.
كانت الحربان العالميتان الأولى والثانية حروبا إمبريالية نتجتا عن خلافات بين تحالفات دول رأسمالية من أجل السيطرة على العالم.
ثم جاءت الحرب الباردة كاستكمال لهذا الصراع حيث اصطفت فيها أقوى الدول الرأسمالية ضد بعضها البعض في الناتو وحلف وارسو.
بالإضافة إلى هذا الصراع العالمي، احتدمت العديد من الحروب الساخنة في أجزاء مختلفة من العالم.
عادة كانت هذه صراعات بين دول رأسمالية مختلفة حول مسألة من يجب أن يسيطر على منطقة معينة، مثل الحرب بين العراق وإيران التي اندلعت في عام 1980.
ولقد أذكت كل القوى الرئيسية نيران الحرب ببيعها أكثر التكنولوجيا العسكرية تعقيدا لدول العالم الثالث.
إن هناك الكثير من الناس الذين يقبلون باقي خصائص النظام الرأسمالي ممن لا تعجبهم هذه الحقيقة الكئيبة.
إنهم يريدون بقاء الرأسمالية ولكن ليس الحرب؛ ولذلك، فهم يحاولون إيجاد بدائل داخل النظام ذاته.فعلى سبيل المثال، هناك أولئك الذين يعتقدون أن الأمم المتحدة تستطيع منع الحرب.
لكن الأمم المتحدة هي مجرد ساحة للصراع تلتقي فيها الدول المختلفة التي لديها الدافع للحرب.
فهناك، تقارن تلك الدول فيما بينها بين ما تملكه من قوة مثلهم في ذلك مثل الملاكمين الذين يتبارون قبل المباراة. وإذا كانت هناك دولة أو تحالف ما أقوى من الأخرى، فكلاهما سيرى لا جدوى حرب نتيجتها معروفة مقدما.
ولكن إذا كان هناك أي شك في النتيجة، فهم يعرفون طريقة واحدة لتسوية القضية - ألا وهي الذهاب للحرب.
لقد كان ذلك صحيحا بالنسبة للتحالفين النوويين العظميين وهما الناتو وحلف وارسو.
وعلى الرغم من أن الغرب كان لديه التفوق العسكري على الكتلة الشرقية، إلا أن الفجوة بينهما لم تكن كبيرة بالنسبة للروس للدرجة التي تجعلهم يعتقدون أنهم في وضع بائس أو لا أمل فيه.
ولذلك، فإن كلا من واشنطن وموسكو قد خططا للدخول في حرب نووية وكسبها بالرغم من وضوح حقيقة أن نشوب حرب عالمية ثالثة سوف تأتي على معظم الجنس البشري.
لقد انتهت الحرب الباردة مع اندلاع الاضطراب السياسي الذي وقع في أوروبا الشرقية في عام 1989 وانهيار الاتحاد السوفيتي وتفككه إلى جمهورياته الصغيرة في 1991.
أصبح هناك الكثير من الكلام بعد ذلك حول "نظام عالمي جديد" و "أرباح السلام".
في مقابل تلك الصورة، وعلى الرغم من كل هذا الكلام، رأينا تتابعاً لحروب بربرية - حرب الغرب ضد العراق والتي كانت حليفتهم السابقة، الحرب بين أذربيجان وأرمينيا في الاتحاد السوفيتي السابق، الحروب الأهلية المروعة في الصومال ويوغوسلافيا السابقة.
ورأينا أيضا أنه ما أن تُحلّ عداوة عسكرية بين قوى رأسمالية حتى تأخذ غيرها مكانها.
ففي كل مكان تعرف الطبقات الحاكمة أن الحرب هي وسيلة لزيادة تأثيرها ووضع غشاء الوطنية على عيون العمال والفلاحين.
من الممكن إذن أن تشمئز من الحرب وتخشاها بدون معارضة المجتمع الرأسمالي، ولكنك لا تستطيع أن تضع نهاية لها.
فالحرب هي النتيجة الحتمية لانقسام المجتمع لطبقات، وتهديدها لن ينتهي أبدا باستجداء الحكام الحاليين لصنع السلام.
يجب أن تنتزع الأسلحة من أيديهم عن طريق حركة تقاتل بها المجتمع الطبقي وتخلعه من جذوره مرة وإلى الأبد.
لم تفهم حركات السلام التي ظهرت في أوروبا وأمريكا الشمالية في نهاية السبعينات هذه الحقيقة. لقد حاربت تلك الحركات من أجل وقف إنتاج صواريخ كروز وبرشينج كما عارضت نزع الأسلحة من جانب واحد وحاربت من أجل التجميد النووي.
لكنهم في نفس الوقت اعتقدوا أن الحرب من أجل السلام يمكن أن تنجح بمعزل عن الصراع بين الرأسمالية والعمال.
ولذلك، فشلت هذه الحركات في تعبئة القوة الوحيدة القادرة على إيقاف الدافع تجاه الحرب:
الطبقة العاملة.
الثورة الاشتراكية فقط هي التي تستطيع إنهاء أهوال الحرب.
الفصل الثاني:
فهم التاريخ
إن الأفكار المجردة لوحدها لا يمكنها أن تغير المجتمع. لقد كانت هذه الحقيقة من أهم الخلاصات التي توصل إليها ماركس.
ومثل عدد من المفكرين الذين سبقوه، أصر ماركس على أنه من أجل فهم التاريخ يجب أن ترى البشر كجزء من العالم المادي.
يتحدد سلوك الإنسان بالقوى المادية، مثله في ذلك مثل سلوك أي كائن طبيعي آخر.
لقد كانت دراسة التاريخ الإنساني جزءا من الدراسة العلمية للعالم الحي.
وأطلق على المفكرين الذين تمسكوا بوجهات النظر هذه بـ الماديين.
اعتبر ماركس المادية خطوة عظيمة للأمام بالمقارنة بالتصورات الدينية والمثالية الأخرى في التاريخ.
فلقد عني ذلك أنك تستطيع أن تتناقش بشكل علمي فيما يتعلق بتغيير ظروف المجتمع وبأنك لا تعتمد في ذلك مرة أخرى على الصلاة لله أو على "التغير الروحي" للناس.
فاستبدال المثالية بالمادية كان معناه استبدال الخرافة بالعلم.
ولكن مع ذلك، فليست كل التفسيرات المادية لسلوك الإنسان صحيحة. فكما كانت هناك نظريات علمية خاطئة في علوم الأحياء أو الكيمياء أو الفيزياء، كانت هناك أيضا محاولات خاطئة لتطوير نظريات علمية خاصة بالمجتمع.
وفيما يلي سنقدم بعض الأمثلة:
من الأفكار المادية غير الماركسية الشائعة هي أن البشر لا يتعدوا كونهم حيوانات تتصرف بشكل "طبيعي" وفي أشياء معينة.
فكما أن القتل هو طبيعة الثعالب أو أن الوداعة هي طبيعة الخرفان، فأيضا من طبيعة البشر أن يكونوا عدوانيين ومتسلطين ومتنافسين وطماعين؛ (ومن ذلك نستنتج أن النساء هن بطبعهن ماكرات وخاضعات ومراعيات للآخرين وسلبيات).
ويمكن أن نجد أفضل رأي حول ما سبق في كتاب القرد العاري.
وخلاصة ما نخرج به من مثل تلك الأفكار ما هي إلا ردود فعل متباينة.
فإذا كان البشر بطبيعتهم عدوانيين، فالنتيجة إذن هي أنه لا يوجد منطق من محاولة تطوير المجتمع. فالأوضاع لن تتغير أبدا، والثورات سوف "تفشل دائما".
ولكن، في الحقيقة، نجد أن "طبيعة الإنسان" تتغير من مجتمع إلى آخر.
فعلى سبيل المثال، التنافس الذي يعتبر شيء مسلّم به في مجتمعنا، لم يكن موجودا تقريبا في مجتمعات كثيرة سابقة.
فعندما حاول العلماء أن يجروا اختبارات الذكاء لفئة من الهنود تدعى السيوكس، وجدوا أن الهنود لا يفهمون لماذا لا يستطيعون أن يساعدوا بعضهم البعض في حلّ الأسئلة.
فالمجتمع الذي عاشوا فيه كان يؤكد على قيمة التعاون وليس المنافسة.
ونجد الحكاية متشابهة مع فكرة العدوانية.
فعندما قابل الإسكيمو الأوربيين لأول مرة، لم يستطيعوا أن يفهموا على الإطلاق معنى "الحرب". ففكرة أن هناك مجموعة من البشر تريد إبادة مجموعة أخرى كانت فكرة مجنونة بالنسبة لقبائل الإسكيمو.
وفي مجتمعنا، من "الطبيعي" بالنسبة لنا أن الآباء يجب أن يحبوا ويحموا أبناءهم. ومع ذلك نجد أنه في مدينة إسبرطة الإغريقية القديمة كان من "الطبيعي" أن يترك الآباء أطفالهم في الجبال لوحدهم لكي يعرفوا إذا ما كانوا سيستطيعون تحمل البرد القارص.
وهكذا، فإن فكرة "الطبيعة الإنسانية التي لا تتغير" لا تقدم تفسيرا للأحداث التاريخية الهامة. فأهرامات مصر، أو روعة اليونان القديمة، أو إمبراطوريات روما أو الإنكاس، أو المدينة الصناعية الحديثة، توضع كلها على نفس الدرجة مع الفلاحين الأميين الذين عاشوا في الأكواخ الطينية في العصور المظلمة.
ويعتبر الشيء الهام الوحيد في هذه النظرية هو "القرد العاري" - وليست الحضارة العظيمة التي بناها هذا القرد. كما تعتبر بعض أشكال المجتمع التي نجحت في إطعام تلك "القردة" غير معترف بها، بينما يُعترف بمجتمعات أخرى تترك الملايين من البشر يموتون من الجوع.
من ناحية أخرى، يقبل الكثير من الناس نظرية أخرى للمادية، والتي تؤكد على الطريقة المُثلى الممكنة لتغيير سلوك الإنسان.
فكما يمكن أن تتدرب الحيوانات على تغيير سلوكها في السيرك أو الغابة - كما يقول أنصار هذا الرأي - فإن سلوك الإنسان يمكن أن يتغير بنفس الطريقة.
فإذا استطاع الأشخاص المناسبين أن يتولوا مقاليد الأمور في المجتمع، كما يقال، فإن "طبيعة الإنسان" يمكن أن تتغير.
تمثل وجهة النظر هذه خطوة كبيرة للأمام عن نظرية "القرد العاري"، ولكنها تفشل في تفسير كيف يتغير المجتمع ككل. فإذا كان كل شخص متكيفاً بشكل كامل في مجتمع اليوم، فكيف يمكن إذن أن يرقى مستوى أي فرد عن المجتمع لكي يرى كيف يمكن تغيير آليات التكيف هذه؟ فهل هناك مثلا أقلية مختارة من الله تمتاز بالمناعة الكاملة ضد الضغوط التي تسيطر على باقي البشر؟
فإذا كنا جميعا حيوانات في سيرك، فمن الذي سيصبح مروض الأسود؟
إن أولئك الذين يؤمنون بهذه النظرية ينتهي بهم الحال إلى القول بأن المجتمع لا يمكن أن يتغير (مثلهم في ذلك مثل أصحاب نظرية القرد العاري)، أو أنهم يعتقدون أن التغيير يحدث بواسطة شيء ما خارج نطاق المجتمع - مثل الله، أو "رجل عظيم"، أو من خلال قوة أفكار الأشخاص. فـ "ماديتهم" تتيح لنموذج آخر من المثالية أن يدخل من باب خلفي.
وكما أشار ماركس، إن هذه العقيدة تنتهي بالضرورة إلى تقسيم المجتمع إلى فريقين بحيث يكون أحدهما متفوق على الآخر.
وتعتبر وجهة النظر "المادية" هذه ما هي إلا رد فعل.
إن أحد أنصار هذا الرأي من المشهورين اليوم هو عالم نفسي أمريكي يدعى سكينر. يريد سكينر أن يكيّف الناس بحيث يتصرفون بطرق معينة. ولكن بما أنه هو نفسه نتاج للمجتمع الرأسمالي الأمريكي، فطرق "التكييف" التي سيتبعها تعني محاولة جعل الناس يتأقلمون مع هذا المجتمع.
وهناك رأي مادي آخر يوقع بكل البؤس الموجود في العالم على عاتق "الضغوط السكانية".
(ويطلق عادة على هذا الرأي - مالثسي - نسبة إلى مالثس وهو الاقتصادي البريطاني الذي عاش في القرن الثامن عشر وأول من ابتدعوا هذه النظرية).
ولكن هذا الرأي لا يستطيع تفسير لماذا مثلا تحرق الولايات المتحدة فائض الذرة لديها بينما يموت الكثيرون في الهند من الجوع.
ولا يستطيع أيضا أن يفسر لماذا لم يكن هناك منذ 150 سنة غذاء من إنتاج الولايات المتحدة يكفي لإطعام 10 مليون من البشر، بينما في عالم اليوم لديهم من الغذاء ما يكفي لإطعام 200 مليون فرد.
فتلك النظرية تتناسى أن كل فم إضافي يحتاج للغذاء هو أيضا إنسان إضافي يستطيع العمل وتحقيق الثروة.
أشار ماركس إلى أن كل تلك التفسيرات الخاطئة ما هي إلاّ أشكال للمادية "الميكانيكية" أو "البدائية". فكلها تتناسى أنه بينما يعيش البشر كجزء من العالم المادي، فهم أيضا أشخاصا فاعلة قادرة على تغيير هذا العالم.
التفسير المادي للتاريخ "يمكن تمييز البشر عن الحيوانات بالوعي، الدين أو أي شيء آخر تحبه.
فهم أيضا يبدءون في تمييز أنفسهم عن الحيوانات بمجرد أن يبدءوا في إنتاج وسائل العيش - أي غذاءهم ومسكنهم وملبسهم."
بهذه الكلمات، أكد كارل ماركس من البداية على النقطة الأساسية التي تميز تفسيره لكيفية تطور المجتمع.
إن البشر حيوانات تطورت من كائنات تشبه القردة.
ومثل الحيوانات الأخرى، فإن أول ما يشغلهم هو إطعام وحماية أنفسهم من المناخ.
فالطريقة التي تقوم بها الحيوانات الأخرى لعمل ذلك يعتمد على بنيتهم البيولوجية المتوارثة.
فالذئب يبقى حيا من خلال مطاردة وقتل فريسته بطرق تحددها غرائزه البيولوجية المتوارثة.
وهو ينعم بالدفء في الليل البارد بسبب الفرو الذي يغطيه.
وهو أيضا يربي أطفاله بالطرق السلوكية المتوارثة.
أما حياة البشر فهي غير جامدة أو محددة بهذه الطريقة.
فالبشر الذين جابوا أنحاء العالم منذ 100,000 أو 30,000 سنة قد عاشوا حياة مختلفة تماما عنا اليوم.
لقد عاشوا في الأكواخ وبطون الأرض، ولم يكن لديهم أواني لحفظ الطعام أو الماء، واعتمدوا في غذائهم على جمع البذور أو إلقاء الحجارة على الحيوانات البرية.
كما أنهم لم يستطيعوا الكتابة أو عدّ الأرقام فيما عدا أرقام أصابعهم.
ولم يكن لديهم أي معرفة حقيقية بما كان يجري بعيدا عن جيرانهم القريبين أو ما قد فعله آباءهم من قبلهم.
ومع ذلك، فإن شكلهم الجسماني منذ 100,000 سنة كان مشابها لشكل إنسان العصر الحديث، وكان مطابقا له تماما منذ 30,000 سنة. فإذا أتيت مثلا برجل الكهف وغسلت جسده وحلقت له ذقنه وشعره وألبسته بدلة وجعلته يمشي في الشارع، فلن يتصور أحد أنه يبدو مختلفا.
فكما أشار عالم الحفريات جوردون تشايلد:
"إن هياكل أجدادنا الأوائل تنتمي إلى المراحل الأخيرة للعصر الثلجي …
ومنذ بداية ظهور الهياكل البشرية في السجلات الجيولوجية، فإن تطور جسم الإنسان وقف عند نقطة معينة على الرغم من أن تطوره الحضاري كان في بداياته."
حول نفس هذه الفكرة، قال عالم الحفريات ليكي:
"إن الاختلافات الجسمانية بين إنسان حضارتي الأوريجناسيان والماجدلينيان (منذ 25000 عام) من ناحية، وإنسان اليوم من ناحية أخرى هي اختلافات ثانوية، بينما نجد الاختلاف الحضاري شديد الاتساع."
وبكلمة "حضارة" يعني عالم الحفريات الأشياء التي يتعلمها الرجال والنساء ويعلموها لبعضهم البعض ( كيفية حياكة الملابس مثلا من الفرو أو الصوف، كيفية عمل الأواني من الطين، كيفية إشعال النار للطهي، كيفية بناء السكن، … إلخ)
مقارنة بالأشياء التي تعرفها الحيوانات بغريزتها.
إن حياة الإنسان الأول كانت مختلفة تماما عن حياة الحيوانات الأخرى. فالإنسان الأول كان يستطيع استخدام الصفات الجسمانية الخاصة بالبشر - مثلا المخ الكبير، والأوصال الأربعة التي يستطيع إمساك الأشياء بها - لكي يشكل الطبيعة من حوله ويطوعها لاحتياجاته.
ولقد عني ذلك أن الإنسان يمكنه التأقلم مع كمّ هائل من الظروف المختلفة وبدون أي تغيير في بنيته الجسمانية.
فالإنسان لم يعد يقوم بردود أفعال تجاه ما حوله فقط، ولكنه بدأ في اتخاذ مبادرات والقيام بأفعال تجاه ما حوله وبدأ يغيرها تبعا لإرادته.
في البداية، استخدم الإنسان العصي والحجارة لمهاجمة الوحوش الضارية، وقام بإشعال النار ليوفر لنفسه الدفء والضوء، وقام أيضا بتغطية نفسه بأوراق الأشجار وجلود الحيوانات.
وعلى مدار عشرات الآلاف من السنين، تعلم الإنسان أن يشعل النار بنفسه ويشكل الحجارة باستخدام أنواع أخرى منها، كما تعلم في النهاية زراعة غذائه وتخزينه في أوانٍ مصنوعة من الطين وأيضا تعلم تربية الحيوان.
ومنذ 5000 سنة من التاريخ الإنساني الذي يعود إلى نصف مليون سنة مضت، تعلم الإنسان سر تحويل المعدن الخام إلى معادن يمكن تشكيلها لصناعة الآلات التي يمكن الاعتماد عليها كأسلحة فعالة.
وكل من تلك التطورات كان لها تأثيرا هائلا، ليس فقط في جعل الحياة أسهل للإنسان لإطعام نفسه وتوفير ملبسه، ولكن أيضا في تغيير نظام الحياة البشرية ذاتها. فمنذ البداية، كانت حياة الإنسان اجتماعية.
ولقد استطاع الإنسان قتل الوحوش فقط من خلال الجهود المشتركة لعدد من الأشخاص، وينطبق ذلك على جمع الطعام وإشعال النار.
كان على البشر أن يتعاونوا.
ساعد هذا التعاون المستمر على أن يبدأ البشر في التفاعل بواسطة نطق أصوات معينة ثم بعد ذلك تكوين اللغة. في البداية، كانت المجموعات الاجتماعية بسيطة.
فلم يكن هناك إنتاج من الطبيعة يكفي لإبقاء مجموعات كبيرة من البشر على قيد الحياة وبصحة جيدة، ربما فقط بعض الأعداد البسيطة.
وكان المجهود الأعظم ينفق في المهام الأساسية لإنتاج الطعام؛ ولذلك، فلقد قام الجميع بنفس العمل وعاشوا نفس نوعية الحياة.
وبدون وجود أية وسائل لتخزين الطعام، لم تكن هناك ملكية خاصة أو انقسامات طبقية. ولم تكن هناك أيضا أية غنائم توجِد دافعا للحرب.
وحتى بضعة سنوات قليلة مضت، كانت ما تزال هناك المئات من المجتمعات في أنحاء متفرقة من العالم تعيش بنفس ذلك النمط - مثلا بين بعض قبائل الهنود في شمال وجنوب أمريكا، وبعض سكان أفريقيا والمحيط الهادي، وأيضا بين الأروميين في أستراليا.
وليس تفسير ذلك أن هؤلاء البشر أقل منا ذكاء أو أن"عقليتهم بدائية".
فسكان أستراليا الأصليين - الأروميين - كان عليهم أن يتعلموا كيفية التعرف على الآلاف من النباتات وعادات أنواع كثيرة من الحيوانات المتنوعة حتى يستطيعوا البقاء على قيد الحياة.
ولقد وصف عالم الأنثروبولوجيا فيرث ذلك بقوله:
"إن سكان قبائل أستراليا …
يعرفون عادات وعلامات واختلاف الفصول عند الحيوانات التي تؤكل وطرق تربيتها بالإضافة إلى معرفتهم بالأسماك والطيور التي يصطادونها. وهم يعرفون أيضا الخصائص الخارجية وبعض تلك الداخلية للصخور والأحجار والشمع والصمغ والنباتات والأنسجة ولحاء الأشجار؛ ويعرفون كيف يشعلون النار؛ ويعرفون كيفية استخدام الحرارة لتخفيف الألم ووقف النزيف وتأخير تعفن الطعام الطازج؛ كما أنهم يستخدمون النار والحرارة لتشكيل بعض الأخشاب وجعلها صلبة وتليين بعضها الآخر…
وهم يعرفون أيضا شيئا ما عن تعاقب فترات القمر، وحركة المد والجزر، ودوران الكواكب، وتعاقب مواعيد الفصول.
لقد استطاعوا أن يتعرفوا على تغيرات المناخ ونظم الرياح، والخصائص السنوية للرطوبة والحرارة، وتدفق النمو عند الأحياء الطبيعية …
بالإضافة إلى ذلك، فإنهم يستخدمون نتاج الحيوانات التي يقتلونها من أجل الطعام بشكل ذكي واقتصادي، فهم يأكلون جلد الكنغرو ويستخدمون عظام الأرجل في صناعة الآلات الحجرية وكمسامير، ويستخدمون الأعصاب في ربط الرماح، والمخالب في صناعة الأساور بالشمع والأنسجة، ثم يخلطون الدهون بالغراء الأحمر لعمل المساحيق، ويخلطون الدم بالفحم النباتي لعمل الدهانات …
ولديهم أيضا بعض المعرفة بمبادئ الميكانيكا، ويصنعون البمرنغ أو قطع الخشب الملوية المعقوفة التي يبرمونها مرة بعد الأخرى لتأخذ التقويس المضبوط."
لقد كانوا "أمهر" منا كثيرا في التعامل مع مشاكل البقاء في الصحراء الأسترالية.
وما لم يتعلموه هو كيفية زرع البذور لينتجوا طعامهم بأنفسهم - وهو شيء تعلمه أجدادنا منذ حوالي 5000 سنة فقط بعد أن مكثوا على وجه الأرض أضعاف تلك السنوات بمئات المرات.
إن تطور تقنيات جديدة لإنتاج الثروة - أي وسائل معيشة الإنسان - قد خلقت أشكال جديدة من التعاون بين البشر، أو علاقات اجتماعية جديدة.
فعلى سبيل المثال، عندما تعلم البشر في البداية زراعة طعامهم (بواسطة زراعة البذور وتربية الحيوان) وتخزينه (في أوانٍ من الطين)، اعتُبر ذلك ثورة كاملة في الحياة الاجتماعية - أطلق عليها بواسطة علماء الحفريات "ثورة العصر الحجري." كان على البشر أن يتعاونوا مع بعضهم البعض لكي يحرثوا الأرض ويحصدوا الطعام، وأيضا ليصطادوا الحيوانات. وهكذا، أصبح بإمكانهم أن يعيشوا مع بعض بأعداد كبيرة عن ذي قبل وأن يخزنوا طعامهم وأن يبدءوا في مبادلة بضائعهم مع مجموعات أخرى من البشر.
وهكذا، كان في الاستطاعة أن تنمو المدن الأولى. فللمرة الأولى، توفرت إمكانية أن يعيش بعض الناس حياة خالية من عبء إنتاج الطعام فقط:
فالبعض أصبح يمكنه التخصص في صناعة الأواني، والبعض الآخر في صناعة صوان المعادن وبعد ذلك المعادن التي أنتجت الآلات والأسلحة، كما تخصص البعض الآخر في مهام إدارية أولية لإدارة شئون المستوطنة ككل.
والأهم من ذلك كله أن فائض الطعام خلق دافعا للحرب.
بدأ البشر اكتشاف طرق جديدة للتعامل مع العالم المحيط بهم، أو تطويع الطبيعة لخدمة احتياجاتهم. ولكن في خلال هذه العملية، وبدون قصد، فقد طوّروا المجتمع الذي عاشوا فيه، وبالتالي حياتهم هم أيضا. لخّص ماركس تلك العملية بقوله أن تطوير "عوامل الإنتاج" قد غيرت "علاقات الإنتاج"، ومن خلال ذلك المجتمع ككل.
وهناك الكثير من الأمثلة الحديثة.
منذ 300 سنة مضت، عاش غالبية السكان في هذا البلد على نتاج الأرض، حيث كانوا ينتجون الطعام بواسطة آلات لم تتطور كثيرا على مدار قرون عدة.
وبالتالي، كانت آفاق تفكيرهم محددة بحدود قريتهم ومفاهيمهم متأثرة إلى حد كبير بالكنيسة.
فالغالبية العظمى لم تكن في حاجة للقراءة أو الكتابة ولم يتعلموهما أبدا.
ثم منذ 200 سنة، بدأت الصناعة في التطور.
فلقد جيء بعشرات الآلاف من البشر للعمل في المصانع. وهكذا، حدث تحول هائل في حياتهم.

http://i57.tinypic.com/f9lfn4.jpg

انتدابات مناظرات في جميع الوزارات التونسية موقع وظائف للعرب تعيينات مسابقات توظيف عروض شغل وظائف في جميع الدول العربية في تونس والجزائر والمغرب العربي والخليج والشرق الاوسط واوروبا من هنا (http://www.jobs4ar.com/jobs/index.php)

http://img163.imageshack.us/img163/7893/r6sv.jpg (http://www.jobs4ar.com/jobs/index.php)