أسس المنهج العلمي عند الجاحظ



1 – الشك .
للشك عند الجاحظ أهمية قصوى ، فهو أس من أسس المنهج العلمي المفضى إلى المعرفة اليقينية ، و خصوصا تلك التي تعتمد الأخبار مرجعا ومستندا. ففي مؤلفات الجاحظ كم هائل من المرويات و المنقولات من كتب اليونانيين و الفرس و غيرهم ، وعدد لا حصر له من الأخبار التي سمعها ممن كان يعرفهم من أهل العلم و رواة الأخبار المعاصرين له . ومما أُثِر عنه قوله :<< إن الإنسان لا يعلم ، حتى يكثر سماعه ، و كثرة الأخبار مشحذة للأذهان ، و مادة للقلوب ، و سبب للتفكير ، و علة للبحث ، و طلب للمزيد من المعرفة>>. فالأخبار تعتبر لديه مصدرا للعلم و المعرفة . إلا أن المرويات تكثر فيها الخرافات ، و الأكاذيب ، و ما يدخل في باب العجائب و الغرائب التي لا تستقيم مع العقل ؛ لذلك دعا الجاحظ إلى تمحيص المرويات و نقدها و غربلتها ، و حذر من الإسراع بقبولها أو رفضها قبل التوقف عندها ، و النظر فيها بالعقل مع التروي و التثبت .



و الشك في الأخبار ضروري في نظر الجاحظ ، لأن البشر ميالون إلى التحريف و الكذب ، مولعون بالعجائب و الغرائب ، و لا سيما العوامّ ، فهم كما يقول الجاحظ :<< أقل شكوكا من الخواصّ لأنهم لا يتوقفون عند التصديق ، و لا يرتابون بأنفسهم ، فليس عندهم إلا الإقدام على التصديق او التكذيب >>.




و من عادة الجاحظ في التعامل مع الأخبار أن يرد منها ما لا يقبله عقله ، و ذلك بكل موضوعية ، غبر مراع لمكانة صاحب الخبر و سلطته العلمية . فمن الأخبار التي رفضها أخبار وجدها في كتاب الحيوان لأرسطو كهذا الخبر الغريب :<< وقال صاحب المنطق: ويكون بالبلدة التي تسمى باليونانية "طبقون"، حية صغيرة شديدة اللدغ إلا أنها تُعالج بحجر يخرج من بعض قبور قدماء الملوك>>، و عبر عن رفضه بقوله : << ولم أفهم هذا ولمَ كان ذلك>>. فإجلاله لأرسطو لم يمنعه من الشك في كثير من رواياته، لأن هدفه هو تحري الحق و الصدق :<< ... و أن يكون الحق في ذلك هو ضالتك ، و الصدق هو بغيتك ، كائنا ما كان ، وقع منك بالموافقة أو وقع منك بالمكروه ...>>.
و في كتاب الحيوان نصوص كثيرة تبرز منهج الشك في الأخبار و المرويات كما وضعه الجاحظ . فهو يبدأ بتقديم الخبر بسنده الصحيح كما سمعه ، أو نقله إليه الرواة الثقات ، أو أهل الإختصاص في شعبة من شعب العلم ، يقدمه بأمانة و موضوعية ، دون حكم له أو عليه ، ثم يأخذ في تقليبه على و جوهه الممكنة ، والنظر فيه من جميع الزوايا ، لتبين مواطن الضعف أو القوة في مضمونه ، ثم يحكم بالقبول أو الرفض .

وليست كل الأخيار موضع شك عند الجاحظ ، فللشك مواضع لا بد من معرفتها : << و اعرف مواضع الشك و الحالات الموجبة له لتعرف بها مواضع اليقين و حالاته الموجبة له ، و تعلم الشك في المشكوك فيه تعلما ...>>. فهناك ضربان من الأخبار مرفوضان قطعا :<< و الحق الذي أمر الله تعالى به و حث عليه أن ننكر من الخبر ضربين : ما تناقض و استحال ، و الآخر ما امتنع في الطبيعة و خرج من طاقة الخلقة ...>> ، فالمستحيلات مرفوضة عقلا ، و لا فائدة من البحث فيها . وما عدا ذلك فالشك فيها واجب :<< فإذا خرج الخبر من هذين البابين ، و جرى عليه حكم الجواز فالتدبير في ذلك التثبت ...>> ، و المقصود بالتثبت الشك و البحث للوصول إلى الحق , و رفض الخبر أو قبوله.
و الجاحظ ينهى عن تعوّد الشك في كل شيء لأنه يوقع صاحبه في الوسوسة :<< اعلم أن من عوّد قلبه الشكّ اعتراه الضعف >>.