خطاب سعيّد عن القوات العسكرية والأمنية: تأويل شخصي…أم منعرج خطير ومخيف للمرور بقوة نحو توسيع مهامه وصلاحياته وعودة الاستبداد؟ بعد التخلص من منظومة الاستبداد وبعد أن قطعت مع الحكم الفردي والسلطة المطلقة



كتب: نوفل سلامة
يبدو أن الكلمة التي ألقاها رئيس الجمهورية قيس سعيد يوم الأحد 18 أفريل 2021 بحضور هشام المشيشي رئيس الحكومة وراشد الغنوشي رئيس البرلمان عند إشرافه على موكب الاحتفال بالعيد الخامس والستين لقوات الأمن الداخلي سوف يكون لها وقعها الكبير في قادم الأيام…وسوف تكون لها تداعيات خطيرة على المشهد السياسي وعلى نظام الحكم وعلى النهج الديمقراطي الذي سارت عليه البلاد بعد التخلص من منظومة الاستبداد وبعد أن قطعت مع الحكم الفردي والسلطة المطلقة…

أخطرها استشهاده بدستور سنة 1959 الذي حكم به بورقيبة وبن علي والذي بفضله انتهكت الحقوق والحريات

فما جاء على لسان سعيّد من حديث في علاقة بالصلاحيات الرئاسية وبفهمه للدستور وبمروره بقوة نحو توسيع مهامه وصلاحياته في ما اعتبره البعض تجاهل لدستور البلاد، وما اتفق عليه الفرقاء السياسيون والنخبة المؤسسة للجمهورية الثانية التي أرادوها ديمقراطية تشاركية من دون تفرد ولا هيمنة ولا استفراد بالحكم والسلطة لن يمر مر الكرام ولن ينظر إليه كباقي خطاباته السابقة وذلك لسبب وحيد وهو أن كلامه هذه المرة في عيد قوات الأمن الداخلي هو كلام خطير للغاية ومخيف ويثير الانزعاج من مغبة الترتيب لحصول انحراف عن المسار الديمقراطي والعودة إلى زمن خلناه قد ولى وانقضى… وذلك لعدة أسباب أخطرها استشهاده بدستور سنة 1959 الذي حكم به بورقيبة وبن علي والذي بفضله انتهكت الحقوق والحريات وبه تم التعسف على السلطة وبواسطته كممت الأفواه وقيدت الإرادات وعرفت البلاد فترات صعبة وصفت بسنوات الجمر حتى ثار عليه الشعب وطالب بإلغائه وبمجلس تأسيسي لكتابة دستور جديد يستجيب لتونس ما بعد الديكتاتورية.



إنحراف عن التوجه الديمقراطي؟

وعملية العودة إليه من قبل رئيس الجمهورية والاستشهاد بفصوله لإثبات أن القوات المسلحة العسكرية تشمل قوات الأمن الداخلي وأن من صلاحيات الرئيس القيام بتعيينات وإعفاءات في صفوف هذا السلك التابع لوزارة الداخلية رمزية خطيرة فيها تنكر مبطن للثورة وانحراف عن التوجه الديمقراطي بل فيها إقرار واضح بالتخلي عن الفكر الديمقراطي يقول ” جئتكم بالنص الأصلي للدستور الأول الذي ختمه الحبيب بورقيبة والذي ينص في فصله 46 أن رئيس الجمهورية هو القائد الأعلى للقوات المسلحة العسكرية .. وجئتكم بالدستور الحالي الذي ينص على أن رئيس الجمهورية يتولى القيادة العليا للقوات المسلحة ولم يقل القوات المسلحة العسكرية كما ورد في دستور سنة 1959 بما يفيد أن رئيس الجمهورية هو الذي يتولى التعيينات والإعفاءات في الوظائف العليا العسكرية والدبلوماسية المتعلقة بالأمن القومي. والقوات المسلحة هي عندي القوات المسلحة العسكرية و القوات المسلحة الأمنية وترتيبا على ذلك فإني أعلن أن رئيس الدولة هو القائد الأعلى للقوات المسلحة العسكرية والمدنية وهذا ليس ميلا إلى احتكار هذه القوات ولكن هو احترام للدستور “.




الخطير في هذه العودة التي قام بها رئيس الدولة إلى دستور 1959 لتوسيع صلاحياته ولتبرير ما أعلن عنه من اختصاص بالتعيينات والإعفاءات في وزارة الداخلية في هذا الفهم الخطير للدستور وهذا التأويل المنحرف لفصوله ولما قام به من تأويل لعبارة ” القوات المسلحة العسكرية ” التي حملها ما لا تحتمل وتجاوز بها صريح العبارة وجعلها لا تنحصر في القوات العسكرية والجيش الوطني التابعة لوزارة الدفاع كما هي إرادة المشرع لتشمل قوات الأمن الداخلي التابعة لوزارة الداخلية والحال أن الفصل 77 من الدستور الحالي قد خصه بتمثيل الدولة في الخارج وخصه بصلاحية ضبط السياسات العامة في مجالات الدفاع والعلاقات الخارجية والأمن القومي .. وذلك بعد استشارة رئيس الحكومة “

الخطير والمقلق في هذه الاستراتيجية تعويد الشعب بمسألة توسيع الصلاحية من خارج أحكام الدستور وإقرار وضع جديد بصلاحيات جديدة من خارج نص الدستور

وزاد الفصل 78 من الدستور بأن منحه صلاحيات القيام بجملة من التعيينات التي تدخل في صميم مهامه منها اختيار مفتي الجمهورية واختيار محافظ البنك المركزي والقيام بتعيينات وإعفاءات في الوظائف العليا العسكرية والدبلوماسية والمتعلقة بالأمن القومي بعد استشارة رئيس الحكومة فهذه هي كل الصلاحيات الممنوحة لرئيس الجمهورية وهذا هو المتاح قانونا للمجال الذي يتحكم فيه وهذه هي الصلاحيات التي أقرها الدستور لرئيس الجمهورية وغير ذلك هو انحراف وسطو وتعد على النص الدستوري الذي تعهد والتزم قيس سعيد في الفصل 76 منه بأن يحترمه وأن يحترم تشريعات البلاد وقوانينها.

تأويل وفهم شخصي

والخطير أيضا بعد إعلانه بتأويل شخصي ومنفرد وفي غياب المحكمة الدستورية التي بإمكانها رد فهمه وتأويله لفصول الدستور وبعد إعلان جمعه قيادة الجيش الوطني وقوات الأمن الداخلي وجعلها تحت إمرته في التمادي المتواصل في توسيع صلاحياته والإصرار الكبير على افتكاك صلاحيات ليست له والاستمرار المحموم نحو تركيز السلطة في يده.. الخطير والمقلق في هذه الاستراتيجية التي يتبعها والرامية إلى تعويد الشعب بمسألة توسيع الصلاحية من خارج أحكام الدستور وإقرار وضع جديد بصلاحيات جديدة من خارج نص الدستور وهي استراتيجية تقوم على فكرة أن كل الذي لم يحصل عليه بمقتضى نص الدستور يتم الحصول عليه شيئا فشيئا بواسطة تكثيف الخطابات والإكثار من الحديث عن الصلاحيات ونقد الدستور ونقد النظام السياسي ومعارضة الحكومة والبرلمان وتحميل منظومة الحكم الحالية كل المسؤولية فيما آلت إليه أوضاع البلاد من تدهور وتراجع ..
الخطير فيما يقوم به رئيس الجمهورية من تأويل وفهم بطريقة شخصية ومنفردة ويضفي عليها صفة الاطلاقية واحتكار الحقيقة المطلقة هو في الانتباه إلى أن كل ما يقوم به الغاية منه المرور بقوة وبكل الطرق والوسائل إلى إقرار النظام الرئاسي والانحراف بالمسار الديمقراطي والتخلي عن فكر الثورة للعودة إلى الوضع الذي كان قبل الثورة.
من أجل ذلك فقد أصاب هشام المشيشي رئيس الحكومة عندما خرج عن صمته وردّ بقوة وصرامة عن كلام رئيس الجمهورية بخصوص توسيع صلاحياته لتشمل قوات الأمن الداخلي وقال بأن ما قاله رئيس الجمهورية في عيد قوات الأمن الداخلي هو كلام خارج عن السياق العام للبلاد، بما يعني أنه حديث خارج الموضوع الذي تعيش على وقعه البلاد وبعيد عن اهتمامات الشعب في هذه المرحلة الدقيقة التي يمر بها وهو خطاب لا يبرر ولا يستوجب قراءات فردانية وشاذة للنص الدستوري..
ويبدو أن رئيس الحكومة قد اختار جيدا عباراته حينما وصف كلام قيس سعيد بالكلام الفرداني الموحي إلى الفكر الأحادي المطلق والمتعسف وبالشاذ والشاذ كما هو معروف يحفظ ولا يُقاس عليه لعدم جديته ولوروده من غير أهل العلم الحقيقيين.