فلسفة الوجود عند ابن سينا


منتدى الفلسفة والعلوم الانسانية منتدى الباكالوريا - منتدى الآداب و العلوم الإنسانيّـة - فلسفيات الباكالوريا آداب وشعب علمية بكالوريا علوم - باكالوريا آداب بكالوريا الجزائر بكالوريا المغرب - منتدى الفلسفة منتدى علم الاجتماع منتدى علم النفس


منتدى الفلسفة من هنا


فلسفة الوجود عند ابن سينا
د.غسان فيتيانوس
أستاذ في كلية الآداب ـ جامعة دمشق‏
في جو مشبع بالعقيدة الدينية الإسلامية، وأفق مليء بالأفكار الفلسفية الأرسطية المتأثرة ببعض الكتب اللاهوتية الأفلاطونية برز ابن سينا أول الفلاسفة الأرسطيين وأكبرهم. لقد كان تأثيره في المفكرين إبان القرون الوسطى، خاصة ألبيرتو الكبير وتوما الإكويني، كبيراً للغاية ، ولاسيما أن الترجمة اللاتينية لمؤلفاته إضافة إلى بعض كتب أرسطو المترجمة من العربية إلى اللاتينية مباشرة، قدأدخلت فلسفة أرسطو إلى الأرض اللاتينية، وأهمية ابن سينا هذه في الفكر الإنساني هي من الأسباب التي حملت Roger Bacon إلى القول: إن المعرفة قد انتقلت إلى العالم مرتين بشكل تام باللغة العبرية، الأولى عن طريق الأنبياء، والثانية عن طريق سليمان الحكيم، ومرتين أخريين بشكل غير تام، الأولى عن طريق أرسطو وباللغة اليونانية، والثانية عن طريق ابن سينا وباللغة العربية(1).‏
لقد عرف ابن سينا، في القرون الوسطى بل في أيامنا هذه أيضاً، أنه فيلسوف الموجود وكاشف له كمعقول مرتبط ارتباطاً مباشراً بالعقل. وهذا ما حملنا، في الواقع، على انتقاء “فلسفة الموجود عند ابن سينا” لتكون موضوع هذا البحث. والحقيقة أن فلسفة ابن سينا الواقعية حول الموجود لكشف ما يسمى “واجب الوجود” لمّا تمنح حتى الآن أبعادها العميقة.‏
ألم يكن كشفه للموجود إلى فرعين أساسيين: الأول يؤول إلى نسقٍ من الماصيات، وبالتالي إلى نظام صوري، والآخر يؤول إلى الغاية التمامية؟ ألم تكن أقسام الموجود تطبيقاً لنظرية أرسطو “لما هو بالقوة ولما هو بالفعل”؟ ألم يكن لهذه الأقسام بداية انطلاق وغاية تمامية بشكل نختبر معه الأولى أي بداية الانطلاق، وبالتالي نتجاوزها بوساطة “القوة والفعل”، للوصول إلى الثانية التي هي الغاية التمامية؟ ألم يطرح هذا السؤال: “أتوجد حقيقة أسمى من الحقائق المختبرة؟”.. من قبل هذا الفيلسوف العربي؟! ألم يكن فيلسوف التراث العربي أفلاطونياً في نفسه، أرسطياً في عقله، ومسلماً حقيقياً في إيمانه وبيئته، هذا كله مع احتفاظه بأصالته وهويته؟‏
إن كلَّ هذه الأسئلة تقود، في أعماقها، إلى التساؤل عن حقيقة الموجود وذاته. فالميتافيزيقيا الواقعية التي يعتمدها العقل، عن طريق التساؤل، لا يمكن أن تكون إلا ميتافيزيقيا الموجود، ولكن ماهو الموجود؟ لا يوجد أي شيء أصح من قولنا: إن الموجود هو ما يوجد، ولكن المصاعب تعترضنا من كل مكان عندما نبدأ بتحديد المعاني التي يمكن حملها على كلمة “يوجد”. وذلك لأنه يلزمنا للإجابة عن السؤال، بشكل دقيق وملائم، أن نكون قادرين على قياس الموجود وتجاوزه، وهذا أمر مستحيل، لذا فإننا لا نستطيع حل هذه المسألة إلا ضمن نطاق البحث الميتافيزيقي للموجود.‏

أقسام العلوم الفلسفية‏
والآن ماهو العلم الميتافيزيقي عند ابن سينا؟.. لابد لنا هنا من تحديد موضوع العلم الميتافيزيقي، وبالتالي تحديد موضوع كل علم من العلوم لمعرفة “البعدية والقبلية”، فيما بينها، تكون العلوم إما عرضية كالطب والزراعة،وإما أصلية: كالعلوم العملية التي هدفها الخير العام، وكالعلوم النظرية التي هدفها معرفة الحقيقة، وكالمنطق الذي هو وسيلة قانونية في خدمة العلوم الأخرى(2).‏

تتشعب العلوم العملية إلى ثلاثة أنواع: فلسفة سياسية وفلسفة منزلية وفلسفة أخلاقية. تنظم الأولى علاقات الأفراد ضمن إطار الدولة مستهدفة خير المجتمع السياسي. وتنظم الثانية علاقات أفراد الأسرة مستهدفة خيرها. وأما الثالثة، فإنها تنظم علاقات الإنسان مع نفسه مستهدفة خيره الفردي، أي سعادته الإنسانية(3). أمّا العلوم النظرية فإنها تتفرع إلى ثلاثة مستويات، اعتباراً من الأدنى إلى الأعلى: العلوم الطبيعية وموضوعها الموجودات المختلطة مع المادة في الواقع وفي التصور، والرياضيات وموضوعها الموجودات المختلطة مع المادة في الواقع، والمنفصلة عنها في التصور، وعلوم ما بعد الطبيعة وموضوعها الموجودات المنفصلة عن المادة في الواقع وفي التصور.‏

إن علوم مابعد الطبيعة ليست بسيطة، بل تقال على وجوه ثلاثة:‏
الميتافيزيقيا، والعلم الكلي والعلم الإلهي ولتحديد كل منها، قسم الفيلسوف العربي المعقولات إلى معقولات أولى، وإلى معقولات ثانية، وتكون الأولى إمَّا أنواعاً للموجود كالمقولات العشر، وإمَّا صفات ومميزات له كالذات والوجود.‏
والموجود، من حيث هو موجود، بأنواعه التي تقوّمه، هو موضوع للعلم الميتافيزيقي. وهو بخواصه التي تحمله نحو الكمال التمام، موضوع العلم الكلي. بيد أن العلم الميتافيزيقي يدرس هذه الخواص، وبالتالي يثبت وجود “المبدأ الأول” دون أن يكون هذا الأخير موضوعاً له، بل إنما يكون له غاية وهدفاً. وعلى هذا النحو تكون معرفة الخالق موضوع العلم الإلهي كمرحلة أخيرة من البحث الفلسفي.‏

وهكذا يؤكد ابن سينا أن الميتافيزيقيا هي العلم الوحيد القادر على إثبات وجود الخالق عن طريق النظر: “ولننظر هل الموضوع لهذا العلم هو إنيَّة الله تعالى جده، أو ليس ذلك، بل هو شيء من مطالب هذا العلم؟ فنقول: إنه لا يجوز أن يكون ذلك هو الموضوع، وذلك لأن موضوع كل علم هو أمر مُسلم الوجود في ذلك العلم، وإنما يبحث عن أحواله (….). ووجود الله تعالى جده لايجوز أن يكون مسلماً في هذا العلم كالموضوع، بل هو مطلوب فيه. وذلك لأنه إن لم يكن كذلك لم يخل إما أن يكون مسلّماً في هذا العلم ومطلوباً في علم آخر، وإما أن يكون مسلّماً في هذا العلم وغير مطلوب في علم آخر. وكلا الوجهين باطلان1 (….). ولا يجوز أيضاً أن يكون غير مطلوب في علم آخر لأنه يكون حينئذٍ غير مطلوب في علم البتة، فيكون إمَّا بيّناً بنفسه، وإما مأيوساً عن بيانه بالنظر، وليس بيّناً بنفسه ولا مأيوساً عن بيانه، فإن عليه دليلاً، ثم المأيوس عن بيانه كيف يصح تسليم وجوده؟ فبقي أن البحث عنه إنما هو في هذا العلم(4)”.‏
أمّا المعقولات الثانية، فهي الكليات الموجودة إما بذواتها، وإما في الأعيان وإما في العقل كالمعاني العامة (الأجناس والأنواع) والمعاني الخاصة (الفصول النوعية). إن المعاني العامة والخاصة هي التي تقوّم موضوع المنطق.‏
ومن هنا يتضح أن المنطق يدرس المعقولات الثانية لا بذواتها، وإنما يدرسها من حيث علاقاتها بمعقولات أخرى، أي يدرس بحسب لغة الأكويني، الموجود العقلي(5).ens rationis‏

ولكن هل هذا يعني أن الموجود العقلي الذي يدرسه المنطق متطابق مع الموجود، موضوع الميتافيزيقيا، من حيث أنه معقول يحمل على كل الوقائع العينية؟ إن الميتافيزيقيا تدرس المعقولات الأولى بذواتها، بعكس المنطق الذي يدرس المعقولات الثانية لا بذواتها، وإنما من حيث علاقاتها مع معقولات أخرى، أي أنه يدرس الكليات. وهكذا فإن الموضوع الخاص للمنطق لا يوجد في طبيعة الأشياء، نفسها، وإنما في العقل كالأجناس، والأنواع، والفصول النوعية التي يستقرئها العقل من الوقائع العينية. ففلسفة الموجود تعتبر الوقائع من حيث أنها موجودات، بعكس المنطق الذي يعتبرها من حيث أنها موجودة في العقل. وبكلمة واحدة يمكن القول إن الأشياء التي يدرسها المنطق ليست مطلوبة لذاتها وبذاتها، وإنما هي آلة قانونية تعصم معرفتها ومراعاتها من أن يضل الإنسان في فكره. فالمنطق إذن آلة في خدمة العلوم الأخرى(6).‏

إن علم الموجود، عند ابن سينا، يحدد المبادئ الخاصة بالعلوم الأدنى منه، مبيّناً موضوع كلّ منها. فهذه المبادئ لا يمكن تحديدها إلاَّ عن طريق هذا العلم الذي “يبحث عن أحوال الموجود، والأمور التي هي له كالأقسام والأنواع”. فتكون إذن مسائل هذا العلم على أنواع ثلاثة:”أسباب الموجود المعلول بما هو موجود معلول”، و”عوارض الموجود”، وأخيراً موضوعات “ومبادئ العلوم الجزئية”(7).‏

ويطلق ابن سينا على هذا العلم تسميات متعددة ومختلفة: فهو: أولاً، “الفلسفة الأولى، لأنه العلم بأول الأمور في الوجود”، وهو، ثانياً: “الحكمة التي هي أفضل علم بأفضل معلوم”، وهو، ثالثاً، “العلم الإلهي”، لأنه يبتغي معرفة الله والأمور المفارقة للمادة في الحد والتصور(8)، وهو، رابعاً: “علم ما بعد الطبيعة”، وهو، خامساً، “علم ما قبل الطبيعة، لأن الأمور المبحوث عنها في هذا العلم، هي بالذات وبالعموم، قبل الطبيعة”(9)، وهو، سادساً، علم” الموجود من حيث هو موجود(10)”، وهو، سابعاً، علم: الموجود المطلق من حيث هو مطلق(11)”. وهو، ثامناً: علم: “الموجود الكلي من حيث هو كلي(12)”.‏
ومع أن مفهوم ابن سينا على الموجود أساسي ويعطي للميتافيزيقا بنيتها العميقة، فإن علاقة العلم الميتافيزيقي بالعلم الكلي والعلم الإلهي، من جهة، وعلاقة الموجود من حيث هو موجود بالموجود المطلق من حيث هو مطلق والموجود الكلي من حيث هو كلي، من جهة ثانية، تبقى علاقات غير دقيقة بل غامضة.‏
لكن هل الموجود، من حيث هو موجود، هو موضوع العلم الميتافيزيقي يعني عند فيلسوف كبير آخر هو ابن رشد؟.. إن تصور الموجود، بنظره، لا يقابلها أي شيء واقعي. كما وأن الموجود ليس له أية خاصة محددة، لأن مثل هذا الخاصة ستخرجه من عموميته وشموله وتجعل منه موجوداً معيناً. إذن ليس للموجود سوى اسم محمول على كل الأمور التي تنطبق عليها المقولات، ولهذا فقد رفض ابن رشد أن يكون الموجود موضوعاً للميتافيزيقيا فلكي تستطيع الميتافيزيقيا فلكي تستطيع الميتافيزيقيا الاستناد إلى كل الموجودات ودراستها، يجب أن يكون موضوعها الجوهري أو الله وليس الموجود. وهكذا فإن موضوع الميتافيزيقيا، عند ابن رشد، هو الله والعقول المفارقة التي يجب على العلوم الطبيعية إثبات وجودها(13).‏
ولكن هل الميتافيزيقيا هي علم الموجودات بشكل عام، أي علم كلي يدرس الموجود، أم هي علم جزئي يدرس المحرك الأول، أي الله؟ وهنا يظهر التنازع الحقيقي بين مفهومين أساسيين: إما أن تتطابق الفلسفة الأولى مع شروط كلية العلم، وبهذه الحالة تستغرق كل العلوم الجزئية، ويطلق عليها العلم الانطولوجي، وإمَّا أن تكون هي نفسها العلم الإلهي الذي يدرس المحرّك الأول، أي الله.‏

ويعتقد تريكو Tricot أن هذين المفهومين يذوبان كلياً في وحدة نظام أرسطو المتماسك تماماً(14). ويستند تريكو في قوله إلى الحل الذي تركه لنا أرسطو في المقالة السادسة من كتاب مابعد الطبيعة: فإن كان ثمة جوهر غير متحرك، فمن المفروض أن يكون هذا الجوهر متقدماً على الجواهر الطبيعية، وبالتالي أن يكون العلم الذي يدرس هذا الجوهر متقدماً على العلوم الطبيعية. وهذا العلم هو الفلسفة الأولى، ولما كانت أولى، فهي كلية، وعلى هذه الفلسفة، “اعتبار الموجود من حيث هو موجود، أي اعتبار ذاته والمحمولات التابعة له من حيث هو موجود”(15).‏

ويتابع تريكو قائلاً: إن الموجود الأول ليس شيئاً مغايراً للموجود من حيث هو موجود، ذلك لأن الجوهرية الحقيقية، موضوع الميتافيزيقيا، لا تتحقق إلاَّ في الموجود الأول المجرد من كل قوة. فلكل موجود مكانته المعينة في تسلسل الصور التي ترتقي من الأفراد والجزئيات المختلطة بالماء والقوة حتى تصل في النهاية، إلى الفعل المحض الإلهي البريء تماماً منهما. وهذا الفعل الإلهي هو الوحيد الواقعي بشكل مطلق، وهو في سموه وعلوه مصدر كل وجود في العالم الأرضي وغايته فمعرفة الله هي معرفة كل الجواهر الجزئية، لأن هذه الأخيرة لا توجد ولا تعقل إلا عن طريق صورها المشدودة نحو الله، أي نحو خيرها الأعظم، وهكذا فإن المرتبة الخاصة لتلك الصور، في الوجود، تتحدد عن طريق ارتباطها في المبدأ الأول.‏

وفي الواقع، فإن ميتافيزيقا أرسطو هي، معاً ، علم انطولوجي وعلم إلهي، ذلك لأن الموجود بمعناه المطلق، أي الموجود من حيث هو موجود، هو نفسه العقل المحض، أي الله. بيد أن الميتافيزيقيا تدرس كل الموجودات بما فيها من الموجودات الحسية(16)، والموجودات الرياضية(17)، في كل مستوياتها، وذلك لتحديد مبادئها وشروط كونها موجودات. وهكذا فإن الموجود، من حيث هو موجود، هو موضوع للعلم الميتافيزيقي الذي هو العلم السامي والعلم الكلي معاً.‏

وبكلمة واحدة فإن الميتافيزيقا الأرسطية تقع، بسبب الحقيقة المطلقة لموضوعها في قمة العلوم النظرية. فمجالها إذن هو الموجود من حيث هو موجود بغض النظر عن كل أنواع العلاقات، أي الموجود بكماله وتمامه، أو بالأحرى الصورة المحضة المفارقة والأبدية، وهكذا فإن مجالها لا يمكن أن يقتصر على جزء معين ومحدد من الموجود.والميتافيزيقيا أولى وكليّة معاً:فهي أولى، لأنها تدرس الموجود الأول الذي هو جوهر بسيط وفعل محض، وهي كليّة لأن الموجود الأول أساس لكل الحقائق الأخرى. إن درجة واقعية أي موجود من الموجودات تقاس بتحوله من القوة إلى الفعل. ولما كان الموجود الأول فعلاً محضاً خالياً من مفهومي القوة والنقصان، فإنه الوحيد الواقعي مطلقاً. وينتج عن ذلك أن الله هو نفسه موضوع الميتافيزيقيا التي تستحق أن يُطلق عليها العلم الإلهي والتي بها ترتبط كل العلوم الأخرى، وذلك لأن العلوم النظرية تتشعب بحسب طبيعة موضوعها، ولأن مكانتها في تسلسل المعرفة المحضة تتحدد بحسب درجة واقعيتها(18).‏
رغم ابتعاد كل من الفيلسوفين العربيين، ابن سينا وابن رشد، عن المفهوم الأرسطي لموضوع العلم الميتافيزيقي، يبقى موقف ابن سينا، على ما يبدو لنا ممّا سبق أقرب إلى أرسطو من موقف ابن رشد.‏

معنى الموجود وإدراك العقل له‏

لقد ميز ابن سينا بوضوح بين الموجود من حيث هو موجود والموجود الأول الذي هو جوهر مفارق وفعل محض. وهذا التمييز أساسي ورئيسي في دراسة الموجود وإدراكه. إذ أنه لابد لنا من تحليل الموجود من حيث هو موجود، من أجل التوصل إلى العلل والمبادئ الخاصة، وذلك لاستحالة تحليل الموجود الأول والجواهر المفارقة لكونها حقائق بسيطة. فالموجود من حيث هو موجود يحتاج إلى تحليل وتشعيب، أما الجواهر المفارقة، فإنها لا تحتاج إلا إلى إدراك وتأمل، لأنها خارجة عن كل تحليل. فليس الموجود من حيث هو موجود هو ما ينهي وما يختتم به الفيلسوف معرفته، وإنما هو ما يسمح له بكشف حقيقة العقل وحقيقة الله.‏

فدراسة الموجود من حيث هو موجود هي حتماً تحليل الموجود إلى أنواعه المقومة له وإلى علله أي أحواله التي تحمله نحو الكمال والتمام. وهذا التحليل يؤول ضرورة إلى الذات لاستحالة وجود أي عنصر أو أية علة أكثر معقولية منها.‏
يستعمل ابن سينا كلمة “موجود”، ليدل بها على ما يوجد من الأشياء خارجة عن الزمان والحركة والصيرورة، ذلك لأن الموجود هو ما يقابل المحسوس. أما “الوجود”، مصدر تلك الكلمة، فإنه يدل على الفعل الذي به تتحقق ذوات الموجودات. كما وأنه استعمل مرادفاً للموجود:”الوجود ههنا هو المطلق الذي يحمل على الوجود الذي لا علة له، وعلى الوجود المعلول المقول بالتشكيك والمحمول على أشياء مختلفة بالتشكيك، لا يكون نفس ماهيتها، ولا جزءاً من ماهيتها، بل إنما يكون عارضاً، فإذن هو معلول مستند إلى علة، ولذلك قال الشيخ: في الوجود وعلله(19)”.‏
وقد استخدم ابن سينا مقابل هذين التعبيرين، الموجود والوجود، تعبير “الكون” الذي هو مصدر الفعل “كان”.: وهذا التعبير يدل على الكائن المحدث المرتبط بالصيرورة والحركة. وهذا هو موضوع العلوم الطبيعية كما لاحظنا ذاك من قبل.‏

إن الموجود هو من الأشياء التي ترتسم معانيها في النفس ارتساماً أولياً، أو هو كما يؤكد الأكويني مردداً بذلك قول ابن سينا: Priom in intellcctu dadit ens(20)، وذلك لأن العقل منذ أن يستيقظ كعقل يدرك المواضيع المحيطة به مؤكداً وجودها أو عدم وجودها. وهنا تتمثل عملية الحكم والتصديق المتضمنة لعملية التصور البسيط. فإدراكنا الحقيقي للموجود هو أول كشف جذري نتوصل إليه، لأننا لا نستطيع أن نعود إلى أي شيء آخر سوى اسم الموجود لتوضيحه. فهو إذن ليس إدراكاً حسياً، لأننا لا ندركه تماماً إلا عن طريق الخبرة التي تقدمها لنا حواسنا باحتكاكها مع الوقائع الفردية، علماً أن الموجود مغاير لتلك الوقائع إذن لابد من تجاوز الوقائع الفردية، أي الماهيات والذرات التي تتحقق واقعياً عن طريق الوجود، نحو الفعل، أي الوجود الذي تلعب الذات دوراً في تنوعه وتشخيصه.‏

ولنذكر الآن هذه النصوص الثلاثة التي تعبر بوضوح عن مفهوم الموجود عند ابن سينا.‏

“إن الموجود، والشيء، والضروري، معانيها ترتسم في النفس ارتساماً أولياً، ليس ذلك الارتسام مما يحتاج إلى أن يجلب بأشياء أعرف منها.(….). وأولى الأشياء بأن تكون متصورة لا نفسها الأشياء العامة للأمور كلها، كالموجود، والشيء، والواحد وغيره. ولهذا ليس يمكن أن يبيّن بشيء منها لا دور فيه البتة أو ببيان شيء أعرف منها. ولذلك من حاول أن يقول فيها شيئاً وقع في اضطراب، كمن يقول: إن من حقيقة الموجود أن يكون فاعلاً أو منفعلاً، وهذا إن كان ولابد فمن أقسام الموجود والموجود أعرف من الفاعل والمنفعل(21)”.‏
“إن الموجود لا يمكن أن يشرح بغير الاسم، لأنه مبدأ أول لكل شرح، فلا شرح له: بل صورته تقوم في النفس بلا توسط شيء. وهو ينقسم نحواً من القسمة إلى جوهر وعرض(22)”.‏

“الموجود يعرفه العقل بذاته دون أن يلجأ إلى التحديد أو إلى الوصف، لأن الموجود ليس له تحديد ولا جنس ولا فصل ولأنه لا يوجد أي شيء أعم من الموجود. ومن ناحية أخرى فإن الموجود ليس له تحديد وصفي، لعدم وجود أي شيء أعرف منه. وبكل تأكيد فإنه من الممكن معرفة اسمه بلغة أو بأخرى (…). فإن قلنا مثلاً بالعربية “موجود”، ونشرحه بالفارسية، أو نشير إلى أن الموجود هو ما تترتب كل الأشياء تحته وللوهلة الأولى، يتشعب الموجود إلى قسمين: الأول يسمى بالجوهر، والآخر بالعرض (23).”‏

إن العقل موجه، بأعمق ما يملكه من العمليات، نحو الموجود، ولا يكون هو إلا من خلال إدراكه للموجود وكشفه له، وهو الوحيد القادر على ذلك. فلكي تبقى الميتافيزيقا قائمة، علينا أن نعتبر أنها وجدت من أجل الموجود، وأن نقبل بقدرة العقل على كشفه وإدراكه، وإلا فسيكون موتها، وذلك لاستحالة وجود علم ميتافيزيقي في مستوى الحواس والخيال والصور.‏

فعن طريق التصور البسيط الساذج ندرك الأسماء والماهيات والذات، وعن طريق الحكم والتصديق يتم التحديد الأولي للوجود. ولكن العملية الثانية تحتوي حكماً على العملية الأولى، لأنها مكونة من عنصرين أساسيين، هما: التحديد، أي الصورة أو الطبيعة وطريقة الوجود، أي فعل الوجود، أو الوجود. وعلينا ألا نخلط بين العنصرين المنطقيين، استيعاب طبيعة معينة وتأكيد وجودها، مع العنصرين الانطولوجيين اللذين تتركب منهما كل الوقائع المختبرة، وهما الموجود والوجود.‏

فكما أن الشيء قد يعلم تصوراً ساذجاً… وقد يعلم تصوراً معه تصديق… كذلك الشيء قد يجهل من طريق التصور… وقد يجهل من جهة التصديق (…). فالسلوك الطلبي منا في العلوم ونحوها إما أن يتجه إلى تصور يستحصل، وإما أن يتجه إلى تصديق يستحصل، وقد جرت العادة بأن يسمى الشيء الموصل إلى التصور المطلوب “قولاً شارحاً”، فمنه حد ومنه رسم ونحوه، وأن يُسمى الشيء الموصل إلى التصديق المطلوب “حجة”، فمنها قياس، ومنها استقراء. ومنهما يصار من الحاصل إلى المطلوب. فلا سبيل إلى إدراك مجهول إلا من قبل حاصل معلوم(24)”.‏



ينتقد ابن سينا العامة التي تعتقد “أن الموجود هو المحسوس”. فيعرض رؤيتهم، أولاً، بقوله: أعلم أنه قد يغلب على أوهام الناس أن الموجود هو المحسوس، وأن مالا يناله الحس بجوهره، ففرض وجوده محال، وأن مالا يتخصص بمكان أو وضع بذاته كالجسم، أو بسبب ماهو فيه كأحوال الجسم، فلاحظ له من الوجود(25)”. ثم ينتقد هذا الرأي معتمداً، كما يقول الطوسي، على وجود موجودات معقولة مجردة عن “الفواشي الغريبة”، من الاين، والوضع، والكم والكيف، كما يقال الإنسان، مثلاً، على الأفراد بغض النظر عن الشروط الحسية(26)، فالمخيلة والحواس الخارجية عاجزة عن إدراك الموجود بعكس العقل فإنه الوحيد القادر على ذلك.‏

رغم أن إدراكنا للموجود ليس إدراكاً حدسياً، كما رأينا ذلك، فإن ابن سينا يتكلم عن إدراك مباشر تتوصل النفس إليه بالعودة إلى أعماق ذاتها، بغض النظر عن الخبرة الحسية. وفي هذا المعنى ينبه ابن سينا على أن الإنسان الكامل الإدراك، وغير كامله، الذي يختل إدراكه إما بالحواس الظاهرة كالنائم، وإما بالحواس الظاهرة والباطنة جميعاً كالسكران ـ شرط أن يكون له مع ذلك فطنة صحيحة ـ لا يغفل عن وجود ذاته(27). ثم يزيد إيضاحاً، بفرض حالة للإنسان لا يدرك فيها شيء غير وجوده نفسه.‏

وتتمثل هذه الحالة بأن يتوهم الإنسان أنه خلق صحيح العقل والهيئة، بحيث أنه لا يبصر أجزاءه ولا تتلامس أعضاؤه، فإنه في مثل هذه الحالة يغفل عن كل شيء، كأعضائه الظاهرة والباطنة، وككونه جسماً ذا أبعاد، وكحواسه وقواه، وكالأشياء الخارجية عنه جميعاً إلا عن ثبوت وجوده ونفسه(28).‏
وهذه المعرفة للموجود هي، على طريقة ابن سينا، معرفة تأمليَّة حدسية إلى حد ما، عن طريق إدراك النفس لنفسها بنفسها.‏

ومع أن تعقل الموجود يتأكد عن طريق ماهية الموضوع المعين، أو ذاته، وعن طريق فعل الوجود الذي يسند إلى الموضوع أو إلى الذات، فإنَّهُ، مع ذلك، يقع خارجاً عن هذه الثنائية. وعلى العقل، في هذه الحالة، أما اللجوء إلى الحدس لإدراك الموجود إدراكاً تأملياً، وأما اللجوء أن طرح الأسئلة التي تعبر عن نزوعه الطبيعي لإدراك الموجود في أدق معانيه.و مع أن ابن سينا قد سلك الطريقتين ـ كما بينا آنفاً ـ، فإنه، مع ذلك، يميل إلى الثانية، لأنها الطريقة العادية المألوفة المتمثلة في اختبار الوقائع العينية المحيطة بنا.‏

وننتقل، عن طريق هذا التساؤل، من المعلوم إلى المجهول ضمن إطار الموجودات بحثاً عن إجابات حقيقية ومعقولة. فإذا لم يكن الموجود لا بالموضوع، ولا بالماهية، ولا بالذات، ولا بالممارسة الفعلية للأشياء الموجودة، فما هو إذن؟.. لابد لنا من ترك بعض العناصر الفرعية جانباً، لكشف حقيقة الموجود، وبالتالي لإدراك المبدأ الخاص بالوقائع الموجودة والعلة الخاصة بوجودها. وهذا الكشف هو ما نطلق عليه منهجاً استقرائياً بكل ما تحتويه كلمة استقراء من معان قوية ودقيقة تسمح للعقل انطلاقاً من الخبرات الفردية والجزئية، بكشف المبادئ والعلل الخاصة بالواقع، وحتى بكشف الكلي.‏

وبالاختصار فإن هذا الاستقراء يقودنا إلى كشف مبادئ الموجودات، أو بالأحرى إلى إدراك ما هو أول ضمن إطار الموجودات بحسب ماهياتها وصورها، وكذلك إلى إدراك ماهو أول ضمن إطار الموجودات بحسب فعلها وغايتها، فالجانب الأول هو الجانب الخارجي الحسي الذي يقودنا إلى إدراك الجوهر، والجانب الثاني هو الجانب الداخلي الذي يقودنا إلى إدراك الفعل، فالجوهر هو الموجود في أول معنى له بحسب الصورة، والفعل هو الموجود في أول معنى له بحسب الغاية.‏

ومع أن كشف الجوهر والفعل يعطي معرفة الموجود عمقاً جديداً، فإننا لا نستطيع، مع ذلك، مطابقة الموجود معهما. ذلك لأن تلك المطابقة ستؤدي بنا إلى اعتبار بقية المعقولات الأخرى للموجود كأنها لم تكن، وبالتالي إن اعتبار الموجود بالقوة كأنه كذلك لم يكن. وهنا يظهر لنا الموجود في تعدده العميق: فهو أولاً: الموضوع المعين، أي الذات، وهو ثانياً فعل الوجود بالنسبة للموضوع، والوجود نفسه بالنسبة للذات، وهو ثالثاً الجوهر من حيث أنه مبدأ، وهو رابعاً الفعل من حيث أنه مبدأ.‏

إن معقولاً واحداً من بين كل المعقولات، بامتياز مرموق عند ابن سينا، أن كل الأشياء التي تقع تحت حواسنا، وبالتالي نفكر فيها، ندركها أولاً كموجودات. فالكون “شجرة”، مختلف عن الكون “حصان” وعن الكون “إنسان”، لكن الموجود يجمع بين هذه الوقائع الثلاث، أو بالأحرى بين كل ما ندركه من أعيان وانطلاقاً من الخبرة الحسية، وعن طريق الاستقراء، يدرك، العقل عند ابن سينا، هذا المعقول، أو هذا العنصر المشترك بين الوقائع العينية المختلفة.‏
وهكذا فإن الموجود يدرك من خلال أقسامه، أي من خلال أنواعه كالمقولات العشر التي تقومه، ومن خلال حالاته التي تحمله نحو الكمال والتمام كالقوة والفعل(29). وبهذا فإن الموجود يسند إلى كل هذه الأقسام، دون أن يكون أيٌّ منها محافظاً بذلك على استقلاله ووحدته، ولكن أية وحدة تبقى في الموجود، من خلال هذا التعدد؟ وما العلاقة القائمة بين الموجود والواحد؟…‏

بيد أن الموجود لا يمكن أن يتوقف عند مستوى التعدد في أنماط الواحد، أي مستوى أقسام الموجود. ولهذا السبب فإن هذا الإدراك العميق للموجود يقود إلى التساؤل هل ثمة موجود آخر خارج من هذا التعدد، هو الموجود بالمعنى الأكثر إطلاقاً للكلمة. وهذا ما قام به فعلاً ابن سينا، إذ أنه بعد أن درس الموجود في المقالات السبع الأولى من الهيات الشفاء، وحلله إلى أقسامه الكبرى، ودرس هذه الأقسام بإمعان دقيق، طرح وجود المبدأ الأول. . “وإذا قد بلغنا هذا المبلغ من كتابنا فبالحري أن نختمه بمعرفة المبدأ الأول للوجود كله وأنه هل هو موجود؟ وهل هو واحد لا شريك في مرتبته، ولا ندّ له؟ أو ندل على مرتبته في الوجود، وعلى ترتيب الموجودات دونه ومراتبها، وعلى حال العود إليه مستعينين به(30)”.‏
والحقيقة أن إدراك الموجود من خلال تلك المعقولات المتعددة هو الذي يدفع العقل ليطرح على نفسه مسألة وجود مبدأ أول. بيد أن إدراكنا للموجود ليس إدراكاً حسياً، ولا خيالياً، ولا وهمياً، وإنما هو إدراك عقلي محض. إنه لا يكتسب عن طريق التحديد، ولا عن طريق الوصف، وبالتالي لا يمكن إثباته لا عن طريق البرهان ولا عن طريق الحجة. وبكلمة واحدة فإن العقل لا يتوقف عند إدراك المواضيع والذوات، بل لابد له من تأكيد الوجود وإدراك المبادئ الأولى للموجود كالجوهر والفعل، وحتى في حال فقدان الخبرة الحسية فإن الإنسان قد ينكر كل ما يحيط به ما عدا وجوده ونفسه.‏

علاقة الموجود بالشيء والواحد‏
لا تدرس الميتافيزيقيا الموجود فقط، وإنما تدرس أيضاً الشيء بذاته وأقسامه، دون أن يكون هذا الشيء موضوعاً لها. يضع ابن سينا الشيء بذاته بموازاة الموجود، ويقول في مطلع الفصل الذي يعالج القضايا التي يدرسها علم الموجود: “فينبغي لنا في هذه الصناعة (العلم الميتافيزيقي)، أن نعرف حال نسبة الشيء والموجود إلى المقولات(31)”.‏
ثم يبين أن فكرة الموجود، وفكرة الشيء، وفكرة الضروري، وفكرة الواحد مرتبط بعضها ببعض في عملية التصور البسيط، أي العملية العقلية الأولى(32). فتصورا الموجود والشيء لا يتبدلان ولا يختلط أحدهما بالآخر، فلفظ الموجوديدل على معاني كثيرة، منها معنى يدل على الحقيقة أو الماهية التي بموجبها يكون الشيء هو هو، وهذا هو المعنى الذي تشير إليه بدقة كلمة شيء(33).‏

يدرك العقل الموجود، والشيء، والواحد إدراكاً مباشراً، وبدون أية وساطة، لأنها مشتركة بين كل الأشياء. أما مبادئ المواضيع الأخرى فإن العقل يدركها من خلال هذه التعابير الثلاثة: “وأولى الأشياء بأن تكون متصورة لأنفسها الأشياء العامة للأمور كلها، كالموجود، والشيء والواحد وغيره(34)”. فهذه التعابير الثلاثة مدركة بذواتها. بغض النظر عن أقسامها التي لا تدرك إلا عن طريق هذه التعابير:”إن من حقيقة الموجود أن يكون فاعلاً أو منفعلاً وهذا وإن كان ولابدَّ فمن أقسام الموجود، والموجود أعرف من الفاعل والمنفعل(35)”. وبالإضافة إلى إدراكنا المباشر لهذه التعابير، هنا لك إدراك آخر يتم عن طريق أقسامها، وهذا هو الإدراك العادي والمألوف عند ابن سينا.‏

رغم أن الشيء يدرك، كالموجود والواحد، من خلال الموضوع والمحمول ومن خلال أقسامه، فإنه أعرف وأعقل منهما، كما هو أعرف وأعقل من أقسامه. فمن يقول: “إن الشيء هو الذي يصح عنه الخبر، فإن “يصح” أخفى من “الشيء”، و”الخبر”، أخفى من “الشيء”، فكيف يكون هذا تعريفاً للشيء؟(….). وأما بالحقيقة فإنك إذا قلت أن الشيء هو ما يصح الخبر عنه، تكون كأنك قلت: إن الشيء هو الشيء الذي يصح الخبر عنه، لأن معنى “ما” و”الذي” و”الشيء”، معنى واحد، فتكون قد أخذت الشيء في حد الشيء(36)”. إن “الشيء” و”الأمر”، و”ما” و”الذي” عبارة عن مرادفات.‏
ومن ناحية أخرى يقول ابن سينا عندما يتكلم على الواحد: “ولأن الواحد مساوق للموجود فيلزمنا أن ننظر أيضاً في الواحد، وإذا نظرنا في الواحد وجب أن ننظر في الكثير، ونعرف التقابل بينهما(37).‏
فالواحد، كالموجد، يرتسم معناه في النفس ارتساماً أولياً، ويكوّن وإياه موضوع العلم الميتافيزيقي، وذلك لأن ما يقال عنه “موجود” يصح أن يقال عنه “واحد”، حتى أن الكثرة مع بعدها عن طباع الواحد قد يقال عنها كثرة واحدة. وهكذا فإن علم الموجود يعتبر “الواحد ولواحقه”، كما أنه يعتبر الكثرة ولواحقها(38). فإذا كان الواحد ميزة الوجود، أو بالأحرى ميزة الجوهرأو الفعل، فإن الكثرة ميزة العدم، أو بالأحرى القوة ومختلف الصور العرضية للموجود. ومع أن أرسطو قد أشار إلى العلاقة القوية بين الموجود والواحد، غير أن ابن سينا قد شدّد على هذه العلاقة بتأثير من أفلوطين.‏
والواحد، كالموجود، يقال عن كل المقولات دون أن يكون أياً منها، ولكن هذا لا يعني مطلقاً أن مفهومي الواحد والموجود متطابقان كلياً:”والواحد قد يطابق الموجود في أن الواحد يقال على كل واحد من المقولات كالموجود، لكنّ مفهومهما ـ على ما علمت ـ مختلف، ويتفقان في أنه لا يدل واحد منهما على جوهر بشيء من الأشياء(39)”.‏

وكما أن الموجود لا يدرك تماماً إلا عن طريق أجزائه، كذلك فإن الواحد لا يدرك عقلياً إلا عن طريق الكثرة، فالكثرة، كأقسام الموجود، تقع في مستوى المعرفة الخيالية غير المنفصلة تماماً عن المادة، وعن لواحقها كالأبعاد والكيفية. أما الموجود والواحد، فإنهما يقعان في مستوى المعرفة العقلية المنفصلة كلياً عن العالم الحسي، لكننا لا نستطيع التوصل إلى هذا النوع من المعرفة إلا انطلاقاً من العالم الخارجي المحيط بنا. وإليكم هذا النص الذي لم تبين مكانته الفكرية في إدراك الموجود والواحد قبل الآن: “لكنه يشبه أن تكون الكثرة أيضاً أعرف عند تخيلنا، والوحدة أعرف عند عقولنا، ويشبه أن تكون الوحدة والكثرة من الأمور التي تتصورها بدياً، لكن الكثرة تتخيلها أولاً، والوحدة نعقلها من غير مبدأ عقلي لتصورها، بل إن كان ولابد فخيالي(40)”.‏




وهنا لابد لنا من إعطاء لمحة بسيطة عن المعرفة التجريدية عند ابن سينا. تتمثل هذه المعرفة بتجريد الصور عن المحسوسات، وذلك لاكتساب المعقولات. وقد تكلم ابن سينا على أربع عمليات تجريدية، هي:‏

1 ـ الإدراك الحسي: وهو يقدم إلى القوة الناطقة في النفس، عن طريق الحواس الخمس والحس المشترك، الصور الخاصة غير المنفصلة تماماً عن المادة. وهكذا لا تزال هذه الصور مشوبة بعناصر مادية مختلفة كالكم والأيَنْ والكيف والوضعية.‏

2 ـ الإدراك الخيالي: وفي هذه العملية يبرئ الخيال الصورة المنزوعة من المادة بشكل أقوى من العملية الحسية، ويحاول الخلاص من المادة. ولكن تبقى بعض اللواحق المادية عالقة بالصورة كالأبعاد والكيفيات.‏

3 ـ الإدراك الوهمي: وهذه العملية أرفع قليلاً من العملية السابقة من ناحية التجريد، لأن لها معاني ليست مادية بذاتها كاللون والشكل. ولكن الوهم لا يجرد الصورة عن لواحق المادة، لأنه لا يزال على صعيد الجزئيات، ولا يزال يصنف الصور حسب المادة، ولا يزال متعلقاً بلواحق المادة ويشارك الخيال في ذلك. وهذه العملية لم يتكلم عليها أبداً أرسطو، وإنما ظهرت لأول مرة عند الفارابي وطورها فيما بعد ابن سينا.‏

4 ـ الإدراك العقلي: وهذه العملية تجرد الصور عن المادة وعلائق المادة من كل وجه. إن العمليات الثلاث الأولى مشتركة بين النوع الإنساني والأنواع الحيوانية العليا، أما الأنواع الحيوانية الدنيا، فليس لها سوى العملية الأولى. ولكن في مستوى العملية الرابعة التي تعود حصراً إلى الإنسان يقع الموجود والواحد كمعقولين مرتبطين مباشرة بالفعل(41).‏

إن علاقة الموجود بأقسامه مشابهة تماماً لعلاقة الواحد بأقسامه. فكما أن الموجود ينقسم إلى أنواع أو مقولات كالجوهر والكمية… وإلى لواحق عرضية أو أقسام كبرى كالقوة والفعل…. كذلك فإن الواحد ينقسم إلى أنواع وإلى لواحق(42). وأنواع الموجود ولواحقه مشابهة تماماً لأنواع الواحد ولواحقه: “وكذلك أيضاً للواحد أشياء تقوم مقام الأنواع وأشياء تقوم مقام الأصناف واللواحق”(43).‏
وعلى الرغم من الأهمية التي منحها ابن سينا للشيء والواحد، يبقى الموجود فوق كل الأشياء: “فالموجود هو ما تترتب كل الأشياء تحته(44).‏

أقسام الموجود‏
ومهما تكن الطريقة التي يدرك من خلالها الموجود، فإنه يدرك مطلقاً بما يحتويه من العمومية، لأنه “لا يوجد أي شيء أعم من الموجود(45)”. ومع أن الموجود ليس بجنس مشترك، فإنه، مع ذلك، محمول على كل الوقائع الموجودة. ولكنه لا يحمل بنفس الطريقة على الموجود الأول وعلى المخلوقات، على المخلوقات الروحية الخالصة وعلى المخلوقات المادية. وهذا هو المفهوم التشكيكي للموجود الذي يقال، في المستوى المنطقي والمستوى الميتافيزيقي، على أنواع الموجود كالمقولات العشر، وعلى أحواله كالذات والوجود. وهنا تتوضح فكرة ابن سينا من خلال هذين النصين: “إنه وإن لم يكن الموجود، كما علمت جنساً، ولا مقولا بالتساوي على ما تحته، فإنه معنى متفق فيه على التقديم والتأخير. وأول ما يكون يكون للماهية التي هي الجوهر ثم يكون لما بعده(46)”.”فالموجود، إذن ينطبق على هذه المقولات تدريجياً من الأكثر نحو الأقل، رغم أن له دائماً نفس المعنى ويطلق على هذا التعبير الموجود بالتشكيك(47)”.‏
فالموجود، كالواحد، لا يحدد، ولابد لمعرفته من اللجوء إلى أقسامه كما لاحظنا ذلك سابقاً. إن الموجود ليس مفهوماً بسيطاً، وإنما هو مركب، ويتشعب إلى قسمين أساسيين، أنواع الموجود، وأحواله. تشمل الأنواع المقولات العشر التي من بينها المادة والصورة لكونهما من الجواهر. أما الأحوال، فإنها تشمل عوارض الموجود الخاصة التي تحمله نحو الكمال والتمام، وهي بالذات والوجود، المتعدد والواحد، المعلول والعلة، المتأخر والمتقدم، الممكن والواجب، ماهي بالقوة وماهي بالفعل”(48)..‏

لقد بين ابن سينا، عندما تكلم على أنواع الموجود، “أن أولى الأشياء بالوجود هي الجواهر ثم الأعراض”، والجواهر بحسب استحقاقها للوجود من الأعلى إلى الأدنى: الجواهر المفارقة التي ليس لها جسم، وهي الجواهر العقلية والجواهر المفارقة المتصلة بجسم، وهي الجواهر النفسية(49)، والجواهر الصورية، والجواهر الجسمية المركبة من صورة ومادة، والجواهر المادية من حيث أنها موضوع لاستقبال الوجود، أما الأعراض، فهي بقية المقولات الأخرى، كالكيفية، والكمية، والمضاف والأين، ومتى، والوضع، والملك، والفعل، والانفعال(50).‏
أما أحوال الموجود، فإنها ماثلة فيه ولا تنفك عنه مطلقاً لدرجة أنها تشكل مطلوب العلم الميتافيزيقي وغايته: “فالموضوع الأول لهذا العلم هو الموجود بما هو موجود، ومطالبة الأمور التي تلحقه بما هو موجود من غير شرط(51)”. ويقصد ابن سينا، هنا، بالحالات، الحالات التي “تلحق بالموجود، لكونه موجوداً من حيث أنه موجود، وليس لكونه كمية أو خاضعاً للحركة….(52)”.‏

تشمل أنواع الموجود المقولات العشر، أي الجواهر، والأعراض التسعة الأخرى وهنالك، من بين هذه الجواهر، جوهران أساسيان هما: المادة من حيث أنها موضوع بالقوة، والصورة من حيث أنها تحقق المادة بالفعل. وهكذا فإن المادة والصورة هما العنصران المقومان لكل الموجودات العينية الواقعية. وهذا هو القسم الأول للموجود.‏

ويتمسك ابن سينا إلى درجة كبيرة بالتمييز بين الذات والوجود. فاعترف أن لكل من المقولات ذاتاً تصويرية لا تصدر عن أي شيء، ولكنها تتحقق واقعياً عن طريق الوجود الذي يضاف إليها: “إن معنى الوجود بالنسبة لتلك المقولات ليس بذاتي وليس كذلك بماهية (….). إذن فلكل مقولة من هذه المقولات ذات لا تصدر عن أي شيء، فمثلاً، أربعة هي أربعة، أو هي عدد مع ميزة أنه يوجد. وفي هذه المقولات يتميز الوجود عن الذات، لأن الوجود عرضي غير ذاتي(53)”. فالذات والوجود يشكلان القسم الثاني للموجود.‏
يحمل الموجود على الواحد والمتعدد، كما يحمل على الوحدة والكثرة: “وكذلك قد يوجد أيضاً أمور يجب أن تتحدد وتتحقق في النفس، وهي مشتركة في العلوم. وليس ولا واحد من العلوم يتولى الكلام فيها مثل الواحد بما هو واحد، والكثير بما هو كثير (….). فيكون كل واحد منها مشتركاً لكل شيء ولا يجوز أن يختص أيضاً بمقولة ولا يمكن أن يكون من عوارض شيء إلا الموجود بما هو موجود(54)”. فالواحد والمتعدد يشكلان القسم الثالث للموجود.‏

ويقال الموجود أيضاً على العلة والمعلول:”فبالحري أن تتكلم الآن في العلة والمعلول، فإنهما أيضاً من اللواحق التي تلحق الموجود بما هو موجود(56)”.‏
وهذا هو القسم الرابع للموجود.‏
ويقال الموجود كذلك على المتقدم والمتأخر، وعلى القوة والفعل التي هي عبارة عن خواص وعوارض لازمة: “لما تكلمنا على الأمور التي تقع من الوجود والوحدة موقع الأنواع، فبالحري أن تتكلم في الأشياء التي تقع منهما موقع الخواص والعوارض اللازمة، ونبدأ أولاً بالتي تكون للوجود ومنها بالتقدم والتأخر(56)”. فالمتقدم والمتأخر، والقوة والفعل تشكل القسم الخامس للموجود.‏

ويقال الموجود أخيراً على الممكن والواجب. ويعتبر كشف الموجود الأول غاية البحث الفلسفي الميتافيزيقي ونهايته. فكل تلك الأقسام تتجه نحو الموجود الأول وتؤدي إليه في النهاية. وهذا هو القسم السادس للموجود.‏
إن ما يقال بالاشتراك على هذه الأقسام هو الموجود، وإن العلم القادر على دراستها جميعاً دون أن يكون أي منها موضوعاً له، هو علم الموجود من حيث هو موجود. وفي هذا المعنى يقول ابن سينا: “فبيّن أن هذه كلها تقع في العلم الذي يتعاطى ما لا يتعلق قوامه بالمحسوسات، ولا يجوز أن يوضع لها موضوع مشترك تكون هي كلها حالاته وعوارضه إلا الموجود. فإن بعضها جواهر، وبعضها كميات، وبعضها مقولات أخرى، وليس يمكن أن يعمها معنى محقق إلا حقيقة معنى الوجود(57)ثم يضيف قائلاً: “فظاهر لك من هذه الجملة أن الموجود بما هو موجود أمر مشترك لجميع هذه، وأنه يجب أن يجعل الموضوع لهذه الصناعة لما قلناه(58)”.‏
إن أنواع الموجود التي هي المقولات العشر تؤول إلى نسق من الماهيات، أي إلى نظام صوري، لكون الموضوع متعلقاً بفصول نوعية. أما أحوال الموجود التي تشمل بقية الأقسام، فإنها تؤول إلى الغاية التي في مستواها فقط نستطيع إدراك تلك الأحوال بشكل تام.‏

ولندرس الآن أقسام الموجود هذه مبتدئين بالمادة والصورة أولى هذه الأقسام.‏

لا تفصل المادة عن الصورة إلا في الذهن، أما في الواقع فإن العملية ليست ممكنة. إن كلاً منهما لا يوجد واقعياً إلا بوجود الآخر، لأن الوجود هو ثمرة لاجتماعهما، ولأن المادة هي مبدأ قابل بالقوة، والصورة مبدأ فاعل بالفعل(59)”.‏

وبما أن ذات المادة هي إمكانية محضة في الوجود، فصدورها لا يتم إلا عن حركات الأفلاك السماوية، أما عن العقل الفعال فلا يمكن ذلك. لكن تغيير هذه الذات الممكنة من القوة إلى الفعل يعود إلى العقل الفعال وإلى الصورة الصادرة عنه.‏
بيد أن تشكل الصورة يعود إلى المادة وإلى أسباب فاعلة خارجة كالقوى السماوية والتحديدات الأرضية والتغيرات الطبيعية(60). ومن هنا نفهم بوضوح أن ابن سينا قد ألحق عامل “التشخيص”، أي التحديد والتعيين، بالمادة، فهي التي تحدد الصورة، وليس العكس.‏

إن الصورة غير المتشخصة متقدمة على المادة وتشترك في علة وجودها، أما الصورة المتشخصة فإنها متأخرة عنها، لأن المادة علة فاعلة في تشخصها. ولا توجد الصورة مخبأة بالفعل في المادة ولا بالقوة فيها. إذن، لا يكمن دور العقل الفعال في إظهار هذه الصورة المخبأة ولا في تحويلها من الموجود في القوة إلى الموجود في الفعل، وإنما يقتصر على إنتاج كل الصور الكفيلة بتحقيق المادة بالفعل.‏

تتمتع المادة، في مستوى الكمية أي في المنطق والعلوم الطبيعية، بالدور الرئيسي تلقاء الصورة، أما في مستوى الكيف، أي الميتافيزيقا، فإن العكس صحيح. إن تقدم الصورة على المادة ليس في مستوى الزمن، وإنما في مستوى الذات. إن هذه الأولية هي نفسها القائمة بين العلة والمعلول، وبين الله والعالم.‏
إن الثنائية القائمة بين المادة والصورة، وبين الجوهر والعرض لا تؤدي بالعقل إلى إثبات واجب الوجود، لأن هذا الأخير ليس بواحدة من المقولات. فهو ليس بجوهر أو بعرض، ولا بجسم أو بمادة أو بصورة، ولا بكمية أو بكيفية، ولا بماهية أو بجنس أو بنوع… بالإضافة إلى أنه خارج عن الزمان وعن المكان وعن الوضع(61).‏
هذا بالنسبة لتشعب الموجود بحسب الماهية والصورة، أما بالنسبة لتشعبه بحسب الغاية، فإنه يشتمل، كما لاحظنا ذلك سابقاً، على أحوال الموجود التي تحمله نحو الكمال والتمام. ولندرس الآن هذه الأحوال مبتدئين بالذات والوجود.‏

إن الذات السينوية ليست بسيطة، وإنما هي مركبة من عناصر ليست فقط تصورية، وإنما هي أيضاً متطابقة مع عناصر مادية وصورية، ومع مفاهيم ومعان جزئية وعامة. وقد ميز ابن سينا في كتبه المنطقية بين ذات واقعية وذات عقلية تصورية. وعندما عالج مفهوم الكلي، في الميتافيزيقا، رفض رفضاً باتاً تجديد المثل الأفلاطونية، فميز الحيوان المأخوذ بعوارضه من الحيوان المأخوذ بذاته مسنداً بذلك إلى النوع الثاني وجوداً معيناً:”فالحيوان مأخوذاً بعوارضه هو الشيء الطبيعي، والمأخوذ بذاته هو الطبيعة التي يقال إن وجودها أقدم من الوجود الطبيعي يقدم البسيط على المركب، وهو الذي يخص وجوده بأنه الوجود الإلهي لأن سبب وجوده بما هو حيوان عناية الله تعالى. وأما كونه مع مادة وعوارض، وهذا الشخص وإن كان بعناية الله تعالى فهو بسبب الطبيعة الجزئية، فكما أن أن للحيوان في الوجود أنحاء فوق واحد، كذلك له في العقل (62)”.‏

وهكذا يمكننا أن نميز، عند ابن سينا، وجود ثلاثة أنواع من الذوات التي يقابلها ثلاث حالات من الكلي، وثلاثة أنواع من الوحدة:‏

1 ـ الذات الحيادية المأخوذة بنفسها Secundum se، ويمكن لها أن تتحقق في مجموعة من الوقائع الجزئية، عن طريق مبادئ مادية خارجية تميز عددياً ا لموجودات الفردية. وتتكون هذه الذات من محمولات مقومة تتحقق في الأفراد بوساطة محمولات عرضية، لأنها مشتركة بين كل موجودات النوع الواحد. ويقابل تلك الذات كلي ميتافيزيقي، كالإنسانية من حيث هي إنسانية، كما يقابلها وحدة صورية محمولة على كل أفراد النوع البشري.‏

2 ـ الذات العينية في الموجودات الفردية In singularibus، وهي مقومة من الذات الحيادية ومن كل ما يضاف إليها من الخارج من المحمولات العرضية. وهنالك في مقابل الذات العينية حالة واقعية فردية ووحدة عددية.‏

3 ـ الذات الموجودة في الفكر عن طريق التجريد In intellectu ويقابل تلك الذات كلي منطقي ووحدة كلية. ومن الملاحظ أن الكلي الميتافيزيقي بعكس النوعين الآخرين، هو وحده أساسي وجوهري، أما النوعان الآخران فهما عرضيان(63).‏

إن الذات، في الموجود التصوري، مركبة من محمولات مقومة (جنس، نوع، فصل) ومن محمولات عرضية (خاص، عرض، عام). بيد أنها في الموجود الواقعي مركبة من عناصر مادية، ومن عناصر صورية.‏
يوضح ابن سينا حقيقة الذات عن طريق الكليات، وعن طريق التحديد، لا يمكن لأي شيء من الأشياء أن يكون كلياً إلا عن طريق حمله على الجزئيات الواقعة تحته بالاسم والحد(64). بيد أن الحمل لا يتضمن تطابقاً بين ذات الموضوع وذات المحمول(65).‏

ينقسم الكلي إلى ثلاثة أنواع من التعابير:‏
1 ـ تعبير يشير إلى الماهية في جواب “ماهو؟”، كالجنس الذي يحمل على أشياء مختلفة ا لحقائق بالعدد، وكالنوع الذي يحمل على أشياء مختلفة الحقائق بالعدد والجنس.‏
2 ـ تعبير يشير إلى هوية الماهية، بالذات، في جواب “أي شيء هو؟”، كالفصل النوعي الذي يقوم النوع ويقسم الجنس.‏
3 ـ تعبير لا يشير إلى الماهية كالخاص والعرض العام.‏

فالنوعان الأول والثاني يشيران إلى محمولات مقومة للذات. أما النوع الثالث، فإنه يشير إلى محمولات عرضية غير مقومة للذات، سواء كانت عرضية لازمة لها كالخاص، أو عرضية مفارقة لها كالعرض العام. ويشترك المقوّم (الجنس، والنوع، والفصل)، واللازم(الخاص)، في أن كل واحد منهما لا يفارق الذات، ويختلفان في أن الثاني، بعكس الأول، غير مقوم للذات. ويشترك اللازم (الخاص) والعارض (العرض العام)، في أن كل واحد منهما خارج عن ذات الشيء وغير مقوم لها. ويختلفان في أن الأول، بعكس الثاني، لا يمكن فصله عن الذات(66).‏

فلكل الكائنات البشرية، مثلاً، ذات مشتركة مقومة بمحمول جوهريٍّ أو بصفة أساسية هي الجنس، وبصفة أخرى هي الفصل النوعي. هذا الأخير يحدد الجنس ويميّز النوع البشري عن غيره من الأنواع. إذن فالفصل النوعي بالنسبة للجنس هو عنصر تشخيصي يميز النوع البشري عن غيره من الأنواع. ولما كانت المادة والصورة تقابلان، في الواقع، الجنس والفصل النوعي، لذا فإن الصورة تلعب بالنسبة للمادة نفس الدور الذي يلعبه الفصل النوعي بالنسبة للجنس، أي أن الصورة هي عنصر تشخيصي يميز النوع البشري عن غيره. بيد أن المحمولات العرضية، كالخاص (الضحك والكتابة)، وكالعرض العام (كاللون والشيب) تميز عددياً الموجودات الجزئية للنوع البشري، إذن فالمحمولات العرضية هي المبدأ التشخيصي ضمن إطار موجودات النوع الواحد. ولما كانت تلك المحمولات العرضية ناجمة، في الواقع، عن المادة المتحولة الفاسدة، لذا فإن المادة هي المبدأ التشخيصي ضمن إطار النوع الواحد(67).‏

أما بالنسبة للتحديد، فإنها قضية شغلت الشيخ الرئيس طوال حياته. يدل التحديد على ماهية الشيء بكل عناصرها المقومة لها. كما وأننا نتوصل، عن طريق التحديد، إلى تصور ذات الشيء، وإلى تمييزها عن الأشياء الأخرى في الوقت نفسه(68). ولما كان التحديد يقع في مستوى الماهية، فإننا لا نستطيع أن نحدد سوى الأشياء المركبة، لأن الأشياء البسيطة ليس لها ماهية. وهكذا فإن الله، عند ابن سينا، لا يمكن تحديده. وبكلمة واحدة يمكن القول إن التحديد هو، كالكلي، يعطي العقل تصوراً دقيقاً عن الذات(69).‏

ولكن الوجود مغاير للذات، فهي “ليس بماهية شيء، ولا جزء عن ماهية شيء، أعني الأشياء التي لها ماهية، لا يدخل الوجود في مفهومها، بل هو طارئ عليها(70)”. فالوجود إذن لا يدخل في تركيب الذات، وإنما هو مرتبط بها كشيء يضاف من الخارج، ذلك لأننا نستطيع تصور الإنسان، دون أي اعتبار لوجوده. وهنا يوضح ابن سينا ما سبقه إليه معلمه الفارابي، وما عبر عنه أرسطو بقوله: “فماهية الإنسان شيء، وفعل وجوده شيء آخر(71)”. وبالإضافة إلى ذلك، فقد اقتبس ابن سينا عن أرسطو(72)، مثال المثلث: “أعلم أنك قد تفهم معنى المثلث، وتشك هل هو موصوف بالوجود في الأعيان، أم ليس بموجود، بعدما تمثل عندك أنه من خط وسطح، ولم يتمثل لك أنه موجود(73)”.‏
وهكذا فإن الوجود “صفة للأشياء ذوات الماهيات المختلفة ومحمول عليها خارج عن تقويم ماهياتها(….)، وليست صفة تقتضيها أصناف هذه الماهيات بل فائض عليها من مبدأ(74)”.‏

ويتمسك ابن سينا كثيراً بالتمييز بين الذات والوجود بالنسبة لممكنات الوجود، ويقول: “ولهذا السبب لا نستطيع القول، إن شيئاً جعل من الإنسان جوهراً، أو من السواد لوناً، ولكن نستطيع القول، إن شيئاً جعله موجوداً. إذن فلكل مقولة من هذه المقولات ذات لا تصدر عن أي شيء، فمثلاً “أربعة” هي “أربعة”، أو هي عدد مع ميزة أنه يوجد. وفي هذه المقولات يتميز الوجود عن الذات ، لأن الوجود عرضي غير ذاتي.(….). إذن فالوجود ليس بجنس وليس بخاص ولا بشيء آخر من هذه المقولات العشر(75)”.‏
يتبين لنا، من خلال هذا النص، ومن غيره من النصوص السابقة، أن لكل من المقولات ذاتاً لا تصدر عن أية علة، ووجوداً أضيف إلى تلك الذات من المبدأ الأول ليحققها بالفعل. فتحديد الذات لموجود ما لا يشمل وجوده. أي يجب أن يضاف الوجود إلى الذات من الخارج، وبالتالي يعود على الخالق تحقيق ذلك… وبشكل آخر يمكن القول: “إن الخلق ليس خلقاً للذات، وإنما هو فعل تفرض بوساطته الذات المعينة في الوجود. فالوجود إذن هو عطاء صادر عن الوجود التام ومضاف إلى ذات ممكنات الوجود التي بالقوة من أجل تحقيقها بالفعل. إن الذات منفصلة عن الوجود ومتميزة عنه في المخلوقات، أما في الخالق فإنها هي نفسها الوجود. ولنبحث الآن في موضوع الواحد والمتعدد.‏






بالتوفيق للجميع


موقع وظائف للعرب في تونس والجزائر والمغرب العربي والخليج والشرق الاوسط واوروبا
من هنا