مقال فلسفي : شعرية التطريز الجمالي والتحليق فوق الحياة
| منتدى مراجعة وتلخيص للفلسفة




منتدى الفلسفة والعلوم الانسانية منتدى الباكالوريا - منتدى الآداب و العلوم الإنسانيّـة - فلسفيات الباكالوريا آداب وشعب علمية بكالوريا علوم - باكالوريا آداب بكالوريا الجزائر بكالوريا المغرب - منتدى الفلسفة منتدى علم الاجتماع منتدى علم النفس



لم يُعرف عن الشعراء عبر العصور أنهم يعيشون طويلاً، أو يتجاوزون المتوسطات المألوفة للأعمار. وهو أمر لا يقف عند حدود الفرضية أو التخمين بل يجد ما يسنده في عشرات الأمثلة التي تؤكد الموت المبكر للكثير من الشعراء، كما هو حال بيرسي شلي وجون كيتس وأبي القاسم الشابي، الذين لم يتجاوزوا العشرينات من أعمارهم. إضافة إلى شعراء آخرين لعبوا أدواراً رائدة في إثراء لغاتهم الأم وتطويرها من دون أن يتجاوزوا الثلاثينات او الاربعينات، كما هو شأن بودلير ورامبو وألكسندر بلوك وبدر شاكر السياب. ولست في مقام الحديث هنا عن الذين قضوا اغتيالاً وقتلاً، من دون أن يمنعهم ذلك من ترك بصماتهم الكبرى على المستويين القومي والإنساني، من أمثال طرفة بن العبد وأبي الطيب المتنبي وألكسندر بوشكين وغارسيا لوركا وغيرهم.
قد تكون الأعمار القصيرة للشعراء هي الثمرة الطبيعية لحساسيتهم الفائقة ولتكوينهم العصبي المشدود حتى نهاياته. فالنار التي سرقوها من الآلهة، كما فعل بروميتوس في الأسطورة اليونانية، لم تفض فقط إلى رفد العالم بمزيد من النور المعرفي والإبداعي، بل انتقل لهيبها بالمقابل إلى قلوب الشعراء وأكبادهم من دون أن تجد سبيلها إلى الانطفاء إلا بالموت. سيكون من المستغرب تبعاً لذلك أن يتجاوز شاعر من الشعراء عتبة العقدين الثامن والتاسع إلا في حالات قليلة تبدو بمثابة استثناء للقاعدة متباعد الحدوث.
يحق لنا تبعاً لذلك أن نحتفل باجتياز سعيد عقل عتبة المئوية الأولى، وبوضع قدميه على أرضية المئوية الثانية. وإذا كان في هذا العمر المديد، الذي نرجو له أن يطول، ما يتصل بالجينات الموروثة فإن فيه حسب رأيي ما يتصل بعلاقة صاحب «رندلى» و«قدموس» بالحياة من جهة، وما يتصل بطبيعة شعره وبرؤيته للغة والتجربة والجمال من جهة أخرى. والحقيقة أن من يتابع سلوكيات الشاعر منذ يفاعته لا بد أن يلحظ افتتاناً عالياً بالحياة بوصفها اعطية إلهية لا يجوز تسفيهها وتمريغها في وحول الابتذال و«الدنس» والتهالك الغرائزي. ثمة في تربية عقل وتكوينه ما يبعده عن نموذج الشاعر الفوضوي والعابث، ويجعله منافحاً عن القيم النبيلة والفضائل الأخلاقية المكرسة منذ القدم. ثمة في حياته، وشعره أيضاً، مواءمة واضحة بين أخلاقيات المجتمع الزراعي المتمثلة بالكرم والعفة والفروسية والوفاء والحب، وبين نزوع ارستقراطي إلى الاهتمام بالجمال والشغف بالفنون، وصولاً إلى الأنا المتعاظمة وتضخيم الذات.
تتراجع مع سعيد عقل فكرة الشاعر الصعلوك التي تكررت في غير حقبة من حقب التاريخ العربي ليحل محلها شعور غامر بالامتلاء والانتشاء بالموهبة والثمل بالتفوق، حيث نعثر على نوع من «النيتشوية» الملطفة والمجردة من العصب العدائي. وبما ان الشاعر يقدم نفسه كنموذج ساطع للتطابق بين الاخلاق واللغة وبين الواقعي والمثالي فإنه، خلافاً لأفلاطون، يرسم للشاعر دور القدوة والرائد والممسك بزمام التغيير. على ان هذا الاعتقاد المفرط في تفاؤله ما لبث ان اصطدم بصخرة الواقع المحبط الذي حرم الشاعر من الدخول إلى الندوة النيابية وجعله يمنى بالهزيمة في مواجهة منافسين تقليديين لا يكفون عن تجديد عقدهم مع الجهل والتخلف والفساد. ومع ان سعيد عقل كان يتعامل مع أهل السياسة بترفع وأنفة واستعلاء، كون السلطة التي يستند إليها هي سلطة الدائم والأبدي وغير المحدود بخلاف سلطة السياسيين على العابر والمؤقت، فإنه مع ذلك عاش التمزق نفسه الذي عاشه المتنبي من قبل، وراهن على الإمساك بسلطة مادية أكثر ملموسية من الكلمات قبل أن يعود هو الآخر إلى بيت الطاعة اللغوي.



المثال لا الحياة

هذا الشاعر الذي يبني تجربته على التصورات المثالية الجاهزة عن الحياة، لا على جسد الحياة الحي وتمظهراته اليومية بترفع في كتابته عن تعاسة الأرض وبؤس الواقع وتراجيديا الضعف الإنساني. فهنا لا إصغاء إلى انه وجع، ولا تحديق في تفاصيل العيش ومكابداته، ولا سقوط في شقاء الحب وأهواله، ولا احتفاء بالألم شأن الرومنسيين. لا بل إن الشاعر الذي «اشتبك» مع الياس أبو شبكة في أكثر من سجال ساخن كان يرى في العاطفة الرومنسية شيئاً من الميوعة «الأنثوية» التي لا تليق بمفهومه الذكوري للشعر. ومن يتتبع تجربة الشاعر منذ بداياته لا بد ان يلفته ذلك العصب المشدود الذي يدفع اللغة والإيقاع الى تخومها الأخيرة، بقدر ما يعقد مع الفحولة الشعرية حلفاً لا تنفصم عراه.
الشعر عند سعيد عقل شأن أكثر خطورة من الموهبة الفطرية التي تؤهل صاحبها لخوض السباق الصعب على الفرادة، بينما الفرادة نفسها تتمثل في الكدح والصقل وتربية الجمال وتجريد اللغة من زوائدها. هكذا يصبح الشعر رديفاً للهندسة والنحت والنمنمة البلاغية ورسم خطوط التماس الملائمة بين الحروف. وسواء تناول الشاعر في قصائده موضوع الغزل والحب، أو الوطن والهوية، أو الموت والشهادة، فإن القصائد تنجز بالمفردات ذاتها تقريباً، مع تنوع واضح في الأوزان والإيقاعات. ذلك ان الاحتفاء بالبلاغة الآسرة والجمال الصرف هو الهاجس الأبرز لدى الشاعر. لذلك فنحن حين نقرأ مراثي سعيد عقل لا ننجذب إلى العمق الحزين والفاجع لحدث الموت بل إلى فضاء العبارات الجمالي وبروقها الأخاذة. هكذا هو الحال في رثاء الشاعر شبلي الملاط الذي يقول فيه «حلمتني؟ أكمل أخلق، ليس أجمل من/ إطلالة راكع من تحتها العدم». وهكذا هو الحال أيضاً في رثاء الأخطل الصغير حيث نقرأ «والكون، قله رنين الشعر، قله صدى/ لكفّ ربك إذ طنّت على الزمن». فالنار التي يسوقها الشاعر من الآلهة لا تندلع هنا من تمزقات الأحشاء وضراوة الألم بل من احتكاك المفردات وشرر البلاغة المتطاير.
شعر سعيد عقل بهذا المعنى يحلق فوق الاشياء ولا يرتطم بها، ويتعالى على الحياة ولا ينعجن في يومياتها وتفاصيلها. إنه لا يأبه للعالم الحقيقي والموجودات الفعلية بل يخلق عالماً مجترحاً من بنات الأفكار وشطط اللغة وحمَّى التخييل. ليس ثمة من شيء وسطي في هذه التجربة الفريدة المكتوبة بالأبيض والأسود، بل هنالك ثنائيات مانوية قوامها الطهر والعهر، الدنس والنقاء، البطولة المطلقة والعجز المطلق. وفي هذا المناخ القصووي يتصل الشاعر بالزمان، والدهر لا باللحظة الراهنة وفساد الوقت، وبالمكان اليوتوبيا لا بالمكان الفعلي، وبالمرأة المتخيلة والمحلوم بها لا بامرأة اللحم والدم. كل اقنوم من أقانيم التجربة «السعد عقلية» متصل بالأسطورة بشكل أو بآخر، أو هو العالم نفسه محمولاً على طبق من أساطير. فلبنان في قصيدة الشاعر عن فخر الدين هو حفنة من الأرض واقعة «بعدَ بعدِ الضمير». وهو في قصيدته عن عزيز أباظة «مبتدع البداع، من نثروا الدنيا ومن نظموا». أما الشعر فهو وفق صاحب «دلزى»: «قبض على الدنيا مشعشعة/ كما وراء قميص شعشعت نجم/ فأنت والكون تياهان كأس طلى/ دقًّت بكاس، وحلم لمّه حلمُ».
لا تبتعد المرأة بدورها عن هذا المناخ التجريدي للأشياء والكائنات. فهي الأيقونة والمعبد والنجمة والإلهة وكل ما لا يمكن احتواؤه بالذراعين. صحيح ان الكثير من الإشارات الحسية التي تشير إلى العناق واللثم والضم موجودة في شعر عقل، ولكن المرأة مرفعة دائما عن الدنس ولواحق الشهوة. إنها امرأة مخترعة (بفتح الراء) أكثر مما هي متحققة في الحضور اليومي. واللافت في هذا السياق ان المعجم الفروسي للشاعر ينسحب على الغزل والحب انسحابه على ميادين الحروب، حيث نقرأ للشاعر «أتجاهى بأن قدّك صنو/ السيف اشقى به شقاء الصحارى. والمرأة في مكان آخر وجود مؤجل وقائم على شفا التحقق: «هممت بأن تخطري في الوجود ولم تفعلي»، أو «ظلّي الغد المنشود يسبقنا الممات إليه غيلة»، أو «كوّنت من توق إلى الحسن، لا منك...». أو هي في مكان ثالث حالة بلاغية قريبة من المعادلات الرياضية والفلسفية، كما في البيت الذي يحفظه الكثيرون من عشاق الشاعر «لوقعك فوق السرير مهيب/ كوقع الهنيهة في المطلق».





طاقة جمالية

سيكون من الصعب أخيراً الإحاطة الكاملة بتجربة سعيد عقل المثيرة للجدل عبر مقالة محدودة المساحة. ورغم كل ما تقدم فإن قيمة الشاعر الكبرى تكمن في فرادة لغته وفي قدرته الفائقة على تحويل القصيدة إلى طاقة جمالية ذات بعد سحري، وفي توظيفه الماهر للإيقاع وتموجاته العصبية المتفاوتة في توترها وانفساحها، وفق متطلبات القول الشعري وضروراته. وهو ما نلحظه في استخدام البحور المجزوءة، او التي يأنف الشعراء من مقاربتها كالمضارع والمجتث والمنسرح وغيرها. لقد بدا الشاعر من هذه الناحية وكأنه يستنفد ما لم يكن مستنفداً بعد من مساحات القصيدة العربية الكلاسيكية، ويصل بها إلى التخوم الأخيرة التي حدت به في نهاية المطاف إلى كسر المثال الذي صنعه بيديه والخروج باتجاه القصيدة المحكية او الكتابة بالحرف اللاتيني، كتعبير رمزي عن اصطدامه بجدار اللغة الذي اصطدم به يوسف الخال من الناحية المقابلة. أما الذين عملوا على تقليد سعيد عقل ومحاكاة لغته وصياغاته فينطبق عليهم أشد الانطباق قول ت. س. إليوت: «إن كل شاعر متفوق، سواء كان كلاسيكياً أو لم يكن، يميل إلى استهلاك الأرض التي يحرثها بحيث تعطي محصولاً متضائلا، وبحيث يجب أن تترك في حالة راحة من بعده إلى زمن طويل».





بالتوفيق للجميع

موقع وظائف للعرب في تونس والجزائر والمغرب العربي والخليج والشرق الاوسط واوروبا
من هنا