دأب الإنسان الدائم : البحث عن الوعي التام
منتدى الفلسفة والعلوم الانسانية منتدى الباكالوريا - منتدى الآداب و العلوم الإنسانيّـة - فلسفيات الباكالوريا آداب وشعب علمية بكالوريا علوم - باكالوريا آداب بكالوريا الجزائر بكالوريا المغرب - منتدى الفلسفة منتدى علم الاجتماع منتدى علم النفس
منتدى الفلسفة من هنا
في يوم من الأيام دخلت قاعةً من قاعات كلية آداب جامعة قاريونس ، وجدت بها أستاذةً تحادث بعضا من طالباتها عن شغفها بالمشي تحت المطر ،ويبدو أن ما دعا الى فتح هذا الباب للنقاش كان طقسَ ذلك اليوم ، حيث كان غائماً ممطراً ، وما أثار تعجبي أن هذه الأستاذة لم تكن لتتحدث عن شيء شخصي كهذا ، فقد كان يبدو عليها الجد..
و أثارني هذا الشغف الشخصي الذي نجده عند كثير من الناس وطفقت لدقائق كثيرة أفكر فيه ، حيث شاطر ما كنت بصدد التفكير فيه ذلك الوقت .. وتجمعت بعضٌ من الأفكار حول هذا الموضوع..
بدأ تجمعها من مصدر التجربة الشخصية ، فقد تذكرت أنه كان لدي شغف كهذا ، لكن بفضل اختياري لشغف مماثل ، لم أشغف بملامسة المطر شغفي الأول بها ، فأنا الآن لا أحب المشي تحتها بل أحب مراقبتها واستشعارها عن بعد وتخيل ما يمكن أن تحدثه لمن يمكث تحتها ..
سألت الأستاذة عن سبب شغفها هذا فجاوبتني قائلة مرةً :\"هكذا\" ومرة بأن المطر ليست كثيرة الهطول في بلادنا ، ولم يكن هذا ما انتظره ، ففكرت كما أسلفت في قولي بهذا الموضوع الجميل والمحير في آن واحد .
وجدت أن تجربتي الشخصية مفتاحاً للبحث في هذه القضية ، فأنا مثلا أشعر برغبة جامحة للكتابة في الأيام الغائمة ، وبقراءة الروايات وتركيب بعض المقطوعات على كل منها وبذلك تظل محفورة في ذاكرتي ، فكلما سمعت تلك المقطوعة استحضرت تلك الرواية ، ومعها استحضر ظروف قراءتي لها \"البرد في الخارج ، ودفء البيوت والأغطية وفراشي ، والسماء الملبدة بالغيوم\".. و كلما رأيت تلك الرواية أو سمعت بها استحضرت تبيعتها من الموسيقا.
وحالَ قراءتي واستماعي واستشعاري للدفء واندماجي في النص ، تحدث بعض الأشياء التي لها علاقة بقضيتنا، فبما أني قد جربت الشغف بالمطر وتركته وبدأت شغفا جديداً فأنا قادر على المقارنة بين هذا وذاك ..
وأنا أقول الآن بأن دافع الفعلين والشغف بهما واحد ، وهو أن الإنسان المسكين الذي وُضعت له الحجب لتحجبه عن الوعي التام ،والذي يركض نحوه في كل آن بوعيه وبلا وعيه ـ يسعى لأن يدخل في عمق تجربة ما ، احساسا منه بأن تلك التجربة ستشعره بوعي فعلي يستلذ به ويُشعره بوجوده.
ومن الكتاب والأدباء من أشار الى هذه الفكرة \"فكرة الدخول في عمق تجربة ما لتحصيل حالة من الوعي أو استشعار الوجود\" منهم الأديب الإيطالي \"ألبرتو مورافيا\" في روايته \"الانتباه\" حيث يتحدث على لسان \"كورا\" زوجته الخائنة صاحبة الماخور فيقول \"إن في العملية الجنسية أبلغ تجربة انسانية واعية ، تشعر الانسان بالوجود الحقيقي و /الأصالة \" والبطل في هذه الرواية ينافي هذا الرأي بقوله أن الجنس هو \"اللاأصالة\".
ومن الكتاب الذين عنوا بهذا الشأن \"الوعي الانساني والوجود\"الكاتب الوجودي المبدع \"كولن ولسون\" حيث أشار إلى تجارب الوعي واستشعار الوجود في كتب عدة .منها اللامنتمي وأصول الدافع الجنسي .
الفارق بين أستاذتنا ومورافيا او بينها وبيني أنها استشعرت في المشي تحت المطر وجودها وأنا استشعرت في ايثاري للدفء والقراءة والاستماع واستشعاري لها عن بعد ، وجودي . الفارق الثاني هو أني أفعل ذلك عن وعي ،فعند التذاذي الأول بهذا الفعل اكتشفت السر وظللت أركض تجاهه بغية تحصيل لذته ، لذة الشعور بالوجود والوعي والاندماج في شيء حقيقي، أما هي فلا تعي رغبتها ولم تفكر في أصل دافعها \"وربما هي تتلذذ أكثر مني لهذا السبب /اللاوعي/ الذي قد يزيد من الاستمتاع بالشيء أحيانا\" وكما يقول أحد المفكرين :إن عشنا حالة لا تحدث فيها التوقعات ،فأي شيء يحدث يكون بمثابة متعة.
لكن الوعي يظل \"قيمة\" و يظل الأفضل ، فعند استشعار هذه اللذة بوعي تنتج عنها حالة انسانية فكرية شعورية عضوية ، لم يجد لها ذوي الاختصاص اسما إلا أخيراً ، وهي حالة \"التدفق\"
قد يكون هذا التدفق في المشاعر أو في الأفكار ، و يكون عند ذوي الطاقات الروحانية العالية \"رؤية\" وعند الأنبياء اتصالا فعليا بعالم ماورائي لا ندري عنه شيئا فقد يدخلون مثلا فيما سماها \"سارتر\" :\"الموجودات في ذاتها\" ومعرفة مابداخلها \"وهذا من باب منتهى الاحتمال والمثال\"
وحتى لا يُساء فهمي أود التنويه على أن هذه الحالة \"قد\" تكون من صور الوحْي ، وليست هي حالة منه أو هي الوحيدة، بل إني أشبهها بما يسمونه المتصوفة بحالة \" الوجد\" أو في حالتها المطلقة ب \"الفناء\"
وهذه الحالة تأتي بشكل مفاجئ ،فهناك من تأتيه على طبق من ذهب بسبب توافر ظروف معينة قد تكون عزلة ـ اغتراب ـ حزن أو غيرها من الظروف المشابهة.
وهناك من لا تأتيه إلا إذا ركز وعيه في شيء حقيقي أو تجربة حقيقية محددة ، ويتقاطع بعضهم مع أصحاب الفئة الأولى التي تأتيهم على طبق من ذهب حيث أنهم قد يركزون بسببٍ من العزلة او الاغتراب او الحزن.
هناك فئة ثالثة لا تأتيها أبدا؛ بسبب أنهم لا يركزون وعيهم أبدا وغالبا يكونون أصحاب أهواء و نزوات وقتية.
وهناك فئة رابعة ولكنها خاصة ، وهي من أصحاب القدرات الروحانية الكبرى والذين يتحكمون بوعيهم أبلغ تحكم ، هؤلاء يتحكمون بقدوم هذه الحالة ، ومنهم من يبعثها الله لهم كوحي أوالهام.
في عمومها ، تفرز إما فائدة معرفية أو أخلاقية أو ايمانية ..
فمثلا من الناحية الأخلاقية والايمانية أعرف شخصا بعد أن تدفق عليه سيل من الأخلاقيات بسبب قراءته لرواية البؤساء الشهيرة ، تحول هذا التدفق إلى عمل وفعل حيث رهن جزءا من معاشه الشهري للتصدق على السائلين \" وهنا تتجلى وظيفة سامية من وظائف الأدب وهي تنقية النفس البشرية من رواسبها\" .
وهذا أيضا من وظائف \"التدفق\"
فما أجمل أن نركز وعينا للحظات لنحظى بدفقات من المعرفة العلمية أو الأخلاقية أو الايمانية أو حتى دفقات من العاطفة الانسانية المجردة السامية.
هذا ما فكرت فيه ساعة سماعي للأستاذة ، ومع كل هذا لا أعلم ان كان هذا ما يحصل لها فعلا أم أنها رغبة عادية أو نزوة .. ومن المفارقات أنها ثاني معلمات اللغة الانجليزية التي تتفوه بالقول ذاته وبالشغف ذاته وحتى بالموقف ذاته التي روت في منتصفه قصة شغفها أمامي ، فلا أدري ان كن متخصصات اللغة الانجليزية تحدث لهن هذه الحالة مع المطر خاصة أو أنهن على درجة من رومانسية تعشق المطر
بالتوفيق للجميع
موقع وظائف للعرب في تونس والجزائر والمغرب العربي والخليج والشرق الاوسط واوروبا
من هنا