أحكام الميراث لدى المذاهب الاسلامية ونتائجها الاجتماعية قانون مدونة الأسرة المغربي
لا أحسب أن الهدف من هذه الندوة هو تقديم عرض تفصيلي لأحكام الميراث لدى الطوائف كافة في لبنان بل اعتقد أن هدف الندوة أو ما يتسع له الوقت في هذه الندوة هو ابراز الأحكام الأساسية للميراث لدى كل طائفة أو مذهب من المذاهب المتمثلة بالمحاكم الشرعية والمذهبية والروحية التي تشكل في إطارها بحث النتائج الاجتماعية لهذه الأحكام والقوانين بما يرمي حسب تقديري ـ إلى مواجهة إشكالية مفترضة يمكن تصورها على النحو التالي:
كيف يمكن أن نطمح للوصول إلى مجتمع موحد ومتجانس دون أن يكون لنا قانون موحد للأحوال الشخصية ومنها المواريث؟
ونظراً لانحصار موضوع الندوة بالميراث فإنني سأتناول في الوقت المخصص لكلمتي بعض الأحكام الأساسية لقانون الإرث في الشريعة الإسلامية وبيان المصدر التشريعي لهذه الأحكام.. كما سأبحث ما إذا كانت هذه الأحكام نهائية أم إنها قابلة للاجتهاد والتأويل وإعادة النظر كما سأبحث فكرة اعتماد أحكام الشريعة الإسلامية للإرث لدى كافة الأديان والطوائف في لبنان بعد بيان أن المذاهب الإسلامية لا يوجد فيها خلافات ذات شأن في أحكام الإرث اللهم إلا بعض الخلافات اليسيرة، وأخيراً سأعرض وجهة نظري حول النتائج الاجتماعية لاختلاف قوانين الإرث داخل المجتمع اللبناني.
1 ـ بيان أحكام الإرث الأساسية في الشريعة الإسلامية:
ـ يتعلق الإرث بكل ما تركه الميت مما كان يملكه قبل موته من أعيان أو ديون أو منافع أو حقوق تقبل لانتقال كحق الخيار في البيع والشراء وحق الشفعة والرهن وسواها.
ـ ما يتركه الميت ينتقل إلى الورثة ولا ينفذ من وصية الميت إلا بمقدار ثلث تركته، مما يعني أن حق الوصية لا يمنع الورثة حقهم.
ـ طبقات الورثة النسبيين ثلاث:
أ ـ الآباء والأبناء وان نزلوا.
ب ـ الاخوة والأجداد وان صعدوا.
ج ـ الأعمام والأخوال. وهذه الطبقات مترتبة في الإرث بمعنى أن الطبقة لاثانية لا ترث مع وجود الطبقة الأولى وأن الطبقة الثالثة لا ترث مع وجود أحد من الطبقة الثانية.
ـ مبدأ التفاوت في الإرث بين الذكر والأنثى قائم فلذكر مثل حظ الانثيين إلا في حالة وجود المتقرب بالأم فقط: كأن يموت المورث عن اخوة وأخوات لأمه فقط فإنهم يقتسمون حصصهم بالتساوي.
ـ يرث الزوج من الزوجة الربع إن كان لها ولد والنصف إن لم يكن لها ولد، وترث الزوجة من الزوج الربع إن لم يكن له ولد والثمن إن كان له ولد.
أكتفي بإيراد هذه النبذة من الأحكام الأساسية للميراث طبق الشريعة الاسلامية وقد اخترت هذه الأحكام بالذات لأنها تلخص المبادئ الأساسية التي يقوم عليها قانون التوارث وهي مبدأ القرابة النسبية ومبدأ القرابة السببية ومبدأ حجب الطبقة الأقرب للطبقة الأبعد ثم مبدأ التفاوت بين الذكر والأنثى، وانتقل إلى بيان المصدر التشريعي لهذه الأحكام فأقول: إنذ أحكام الإرث ـ ككل الأحكام الأخرى للشريعة الاسلامية ذات مصادر أساسية هي القرآن الكريم والسنة النبوية ويلي هذين المصدرين الإجمال والعقل أو القياس والاستحسان على خلاف بين المذاهب الاسلامية حول معنى القياس والاستحسان والاجتهاد على أن هذه المذاهب مجمعة على حجية النص الق آني والسنة النبوية وعلى المبدأ المشهور (لا اجتهاد في مقابل النص وإن كان الكثير من
أحكام الشريعة الاسلامية هو ثمرة اجتهاد الفقهاء فإن الأحكام الواردة بنص ثابت أو مجمع عليه في القرآن والسنة النبوية فهي ليست مورد خلاف بين الفقهاء إلا بمقدار ما تسمح طبيعة النص الوارد بتفاوت الفهم
والاستنتاج. لذلك كانت أحكام الإرث هي أقل الأحكام الشرعية مورداً لخلاف الفقهاء إذ أن هذه الأحكام وبكثير من تفصيلاتها قد نص عليها القرآن فيما نسميه بآيات الاحكام… واستوعبها بدرجة لم يبق معها مجال للاجتهاد وبالرأي غلا في حالات محدودة جداً أبرزها ـ كما أظن ـ القول بالتعصيب والعول الذي تقول به المذاهب السنية وينفيه فقهاء الشيعة الإمامية وبناء على مسألة التعصيب فيما يعطيها المذهب الجعفري منفردة ومجتمعة كامل التركة بعضها بالفرض والآخر بالرد وهناك خلافات جزئية يسيرة لا يتسع المجال لذكرها. بناء على ما تقدم فإننا مضطرون للتوقف عند الحقائق التالية:
أ ـ ان حكام الإرث في الشريعة الاسلامية تكاد تكون اجتماعية باستثناء بعض الأحكام الجزئية التي لا يؤثر الاختلاف بشأنها على المنظومة العامة والأساسية لأحكام الإرث.
ب ـ ان مصدر هذه الأحكام هو النص القرأني مباشرة بما لا يدع مجالاً للاجتهاد بشأنها باستثناء الجوانب الجزئية التي تقع في فراغ من النص أوانها ناجحة عن تفاوت في فهم النص وهي ـ كما أشرت آنفاً ـ محدودة جداً.
ج ـ ان فكرة تخلي المسلم عن الالتزام بموجبات هذه الأحكام غير ممكنة غلا في حالتين:
إحداهما: التنكر للقرآن الكريم والسنة النبوية بوصفهما مصدرين تشريعيين.
وثانيهما: التعسف في ممارسة الاجتهاد تعسفاً يخرج الاجتهاد عن حدود العقل وشروطه وينتهي إلى الفوضى التشريعية.
وكلا الحالتين المذكورتين تشكل مساساً خطيراً ليس في البنية التشريعية للمسلمين بل في عقيدتهم نفسها.. وهذا ما لا يقع ـ أو لا ينبغي أن يقع
ـ في دائرة المطالبتين في إصلاح الأوضاع التشريعية سواء كان هؤلاء المطالبون مسلمين أو غير مسلمين.
هنا سأطرح فكرة اعتماد أنظمة الإرث الاسلامية كأحكام قانونية ملزمة لجميع المواطنين اللبنانيين مسلمين وغير مسلمين منطلقاً في طرح هذه الفكرة موحداً لجميع اللبنانيين. من الاعتبارات التالية:
1 ـ ان أحكام الإرث وقوانينه
كما هي في الشريعة الاسلامية وإن جرى تطبيقها عبر قرون متطاولة وفي المجتمع الاسلامي المتنوع
ومتعدد القوميات أثبتت ـ بغض النظر عن أساسها الديني ـ كفاءتها المدجنية في تنظيم هذا المرفق الحيوي في حياة البشر.
2 ـ ان المشرع اللبناني لا يستبعد ـ على الأقل ـ الشريعة الاسلامية كمصدر من مصادر تشريع القوانين وهو عندما يأخذ بقانون الإرث كما هو في الشريعة الاسلامية ويطبقه على جميع اللبنانيين سيجعل منه قانوناً لبنانياً يحقق الوحدة المنشودة في حقل هام من حقول التشريع في مجال الأحوال الشخصية… أي سيصبح للبنانيين قانون ميراث موحد وهي فرصة ليست بقليلة الأهمية على كل حال.
3 ـ ان خلو التعاليم المسيحية الدينية من نصوص تتعلق بأحكام محدودة في تنظيم الحياة الاجتماعية والاقتصادية يترك
المجال واسعاً أمام المسيحيين للأخذ ببعض التشريعات الاسلامية لا بوصفها ذات أساس عقيدي اسلامي
إذ ليس المطلوب من المسيحي أن يتجاوز عقيدته وإنما بوصف هذه التشريعات ذات منفعة عملية تنظيمية بغض النظر عن مصدرها الديني ولعل هذا المبدأ ينطبق على موضوع الميراث أكثر مما ينطبق على غيره من قوانين الأحوال الشخصية الأخرى.
فهل نعمل على اعتماد قانون الإرث كما هو في الشريعة الاسلامية قانوناً موحداً لجميع
اللبنانيين يلتزمه الجميع كقانون صادر عن السلطات التشريعية اللبنانية يأخذ به المسيحي وغير المسلم عموماً كجزء من المنظومة القانونية اللبنانية ولا يحرج المسلمين لجهة انسجامه مع موجبات عقيدتهم وشريعتهم في الوقت ذاته؟ انتهي عند هذا الحد من النقاط التي طرحتها هذه المداخلة منتقلاً إلى النقطة الأخيرة فيها وهي النتائج والآثار الاجتماعية لاعتماد قانون الإرث كما أقرته الشريعة الاسلامية ثم الآثار والنتائج المحتملة لاقراره قانوناً موحداً لجميع اللبنانيين. إن التدقيق في الأحكام الشرعية الاسلامية فيما يختص بتوزيع التركة يجعلنا نلاحظ أن الشريعة الاسلامية لم تعتمد مبدأ المساواة في تقسيم الحصص الإرثية بل اعتمدت مبدأ العدل إذ لو اعتمدنا مبدأ المساواة لوقعت في محذور المساواة بين غير متساويين فكما تكون المساواة بين الورثة في بعض الحالات منسجمة مع مبدأ العدل يكون التفاوت في حصص الورثة في حالات أخرى هو المنسجم مع مبدأ العدل مثال ذلك إذا مات الولد وورثه أبواه ولم يكن له اخوة ترث الأم الثلث ويرث الأب الثلثين أما مع وجود الاخوة للميت فإن الأم لا ترث سوى السدس والباقي للأب…
وفي حالة ثالثة: أن يموت الولد عن زوجة وأبناء فأن أبويه يتساويان في ميراثه فيرث كل منها
السدس. أما ما هي الحكمة في التفاوت أحياناً والتساوي أحياناً أخرى، في هذا المثال… فالأمر متروك للحد الأدنى من النظر والتمعن لنكتشف أن أحكام التفاوت والمساواة هنا تمليها اعتبارات المسؤولية المالية لكل من الأب والأم فالأب واجب النفقة على
الزوجة لذلك اقتضى ضعف حصة الزوجة والأم في الحالة الأولى والأب عند وجود اخوة متعددين للميت تزداد حصته من الإرث فيرث خمسة أسداس وترث الأم سدساً واحداً لأن الأب هنا ملزم بالنفقة على زوجته وعلى أولاد أيضاً الذين هم اخوة المتوفي بينما الأم غير الأم لأن معظم التركة يذهب لأولاد الميت وزوجته ويبقى جزء منها هو الثالث يوزع بالتساوي على الأبوين اللذين غالباً ما يكون قد تجاوزا مرحلة مسؤوليات الانفاق على الأسرة. سقت هذا المثال للتأكيد على أن مبدأ العدل في توزيع التركة لا يستلزم المساواة بين الورثة ورداً على المطالبين بمساواة الذكر والأنثى في الحصص الإرثية متجاهلين ان قانون الإرث والنفقة ليسا منفصلين وأن أحدهما يكمل الآخر فالحكم الشرعي الذي يفرض للذكر مثل حظ الانثيين هو نفسه الذي يرتب
التزامات على الرجل قد تفوق هذا الامتياز من خلال الزام الرجل بالنفقة على الزوجة والأولاد وأعفاء الأم منها أي حتى من الانفاق على نفسها.
ان قانوناً موحداً للإرث في لبنان على أساس التنظيمات التي أقرتها الشريعة الاسلامية وكما بينت آنفاً لن تقتصر نتيجته
الاجتماعية على شعور لبناني بالاقتراب نحو وحدة تشريعية بل ستكون له نتيجة إضافية ذات محتوى ثقافي من شأنها أن تحد من المناخ الطائفي وتؤسس لمناخ حواري يتم من خدمة استيعاب فكرة التنوع الديني وعند تحقيق هذا الحد من التطور يمكن في
نظرنا بحث الموضوعات الفقهية والقانونية المتعلقة بالأحوال الشخصية بأكبر قدر من الجرأة
والمسؤولية وأقل قدر من الحذر والخوف من المزايدات. طبعاً فإنني لا أزعم أن هذا الانجاز وحده كفيل بتحقيق طموحنا بتجاوز ركام طويل من القيم المذهبية والطائفية المقمحة في وعينا للقيم الدينية الأصيلة ولكنني أدعي أن بداية الطريق هي في اختراق المحرمات المزعومة والتزامنا بالمحرمات الدينية الحقيقية ـ وهذا المبدأ ـ يجب أن يكون
رائدنا دائماً وفي كل المواقع ويجب أن يكون رائدنا ـ بالطبع ـ ونحن نقارب الموضوع العام لهذه
الندوة: حول قوانين الأحوال الشخصية وكيفية تطويرها.