المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مقال فلسفي : نيتشه؛ ثورة الإنسان على نفسه



نتائج البكالوريا - bac
06-16-2014, 12:49 AM
مقال فلسفي : نيتشه؛ ثورة الإنسان على نفسه
| منتدى مراجعة وتلخيص للفلسفة



منتدى الفلسفة والعلوم الانسانية منتدى الباكالوريا - منتدى الآداب و العلوم الإنسانيّـة - فلسفيات الباكالوريا آداب وشعب علمية بكالوريا علوم - باكالوريا آداب بكالوريا الجزائر بكالوريا المغرب - منتدى الفلسفة منتدى علم الاجتماع منتدى علم النفس (http://www.jobs4ar.com/jobs/forumdisplay.php?f=95)



ذات مساء رمادي؛ فرشت الكرسي بمزرعتي الصغيرة وجلست عليه برفقة نيتشه. فتحت الماء لأسقي الزرع، ولمحت على طرف السور قط كان يحاول النوم فيما يبدو، وقد استيقظت حواس التوثب لديه لدى ملاحظته لي؛ قبل أن يعود إلى سكينته عندما عرف أنني أمسك بنيتشه. كان مستمتعا بدفء الجدار، آمنا بعدميته المطلقة التي تجعله لا يأبه بي وأنا أقرأ عدمية نيتشه المؤمنة. كنت أنقّل بصري بين نيتشه والقط. بدا لي للحظة أن الفرق بينهما ضئيل جدا. فكلاهما راقدان في سبات العدم. وأنا وحدي الذي أظن أني ناج منهما. كلاكما عجوز وأنا الذي أظن أني الأقوى عودا منكما. لقد كنت أكثر قدرة على تحمل القط من تحمل نيتشه، تماما كطفلي الصغير الذي دخل المشهد ليطرد القط من مكانه؛ إذ لم يتعلم بعد كيف يكبح فضوله لاستكشاف هذا الكائن الغريب عليه. هل نيتشه هو الكائن الغريب لدي تماما كما كان القط بالنسبة لولدي؟ هل أحتاج أن أكبح فضولي في اقتحام عالم هذا الفيلسوف العجيب؟ ربما لا؛ لأنني متأكد أنه لا يأبه بي.

نيتشه؛إنه المتأله العجيب؛ الصوفي الجاحدالذي استطاع أن يخترق عالم الإله ويعلن أنه مات؛ وهو الذي أمسك به بيديه العاريتين؟ إنه لا يكذب وهويكتب؛ بل إنه لا يكتب؛ وإنما يحفر الروح حفرا. إني ألعنه لعنا لأنهيكشف لي بؤس حالي وخواء روحي. وأنا الذي كنت أظن نفسي قد اكتشفت الحقيقة. لقد هربت من دجل إلى دجل جديد حسبته شحما؛ ووجدت نيتشه يقول لي كما قال المتنبي أنه ورم. نعم أنا ألعنه وأنحني له في آن واحد. إنه مدينة الرب التي تصطبغ فيها الفضيلة بالجريمة والجريمة بالفضيلة. سحقا له. لقد كرهت بسببه المنطق والحقيقة والأنا الإله والعدم. سأشنق نفسي بحروفه التي تعتصر الروح بقوة. إنه القديس الشيطان. وأرجو أن يعذرني فقد بدأت أفقد السيطرة على هذا الوعي الذي مذ كان هو زائف. لا أستطيع أن أقرأ له بدون أن أخلط ذاتي معه، فأنساه تارة وأنساها تارة أخرى. إنهيستفز غريزة البقاء لدي بمحاولاته المستمرة وإلحاحه الدؤوب ?ن أقتل نفسي. آه لو أعرف حجم الألم الذي اعتصرهحتى أنتج كل هذا التدمير للروح. سحقا له ولكل كتبه. لماذا لا أستطيع أن ألخصها؟ لماذا بين السطر والسطر يوجد سطر غير مكتوب؛ توجد غابة من المعاني؟ أي شيطان يعتريه عندما يكتب؟

نيتشه ذلك الحيوان الإله؛ ذلك الغريب الذي هرب من لعنة المريدين، واحتقر كل من يتفلسف لأجل الأتباع. تماما كما احتقر الإله كردة فعل لاحتقار الإله نفسه للإنسان. إنه عزل إلهه عن ذاته ثم أخذ يوسعه ضربا بالسياط، ليخفف من الألم الناتج عن جلد الذات. كما لو كان الإله والإنسان يتنازعان هذا الجسد وكل منهما يدفع الآخر ليطرده، ونيتشه من نجح في طرد إلهه، ومع ذلك كانيعشقه لأنه جزء منه. جزء منهيحاول أن يصل معه إلى سلام معين حتى لا يزاحمه، ولا يرهقه بالعقل. لطالما تغنى بالتفوق؛ بالصفوة. ورفض النزول إلى ما أسماه بعالم الدهماء، فالقديسون لديه هم من الصفوة الذين قبلوا أن ينزلوا لهذا العالم، بينما رفضنيتشه ذلك، بل ويطلب من هؤلاء الصفوة أن يخلصوا لأنفسهم وأرواحهم، وأن يترفعوا عن التنازل عن تفوقهم بحجة التواضع. ولقد احتقر حتى تواضع القديسين ورجال الدين. إنه تواضع على طريقة الدودة التي تنكمش على ذاتها لئلا تداس. نعم لئلا يدوسها الدهماء. إن مصدر سلطته كما يحب أن يقول هو أن هؤلاء الدهماء لا يفهمون كلامه، ومنها يظنون أنه متفوق عليهم فيخشونه. يخشون تفوقه فلن يقتربوا منه. ومع ذلك فلديه من القوة ما يكفي لأن يعيش وحيدا غريبا ليسجل أسطورته العدمية كواحدة من أكثر الإرادات عشقا للموت.

لماذا يرفض الانتشار بطريقة العودة للأصول؟ لماذا يعتبر العودة إلى مشتركات الجماعة سرطان يفتك بالروح؟ يفتك بفردانية الروح؟ هل لأنهيعتقد بأن الغرائز تعطيه بقدر ما يعطيها؟ أم لأن صانعي الأنظمة يؤسسون لعدم النزاهة بانطلاقهم من هذه الأصول المزعومة؟ ألم يرجعنيتشه نفسه إلى قواعد الفهم الكلي للأمة الألمانية لكي يعنفها على مكننة الروح؟ أم أن هناك مبررا آخر لديه؛ كتحاشيه مثلا للمتكلمين المتحذلقين الذين يرهقون الواقع بالقوانين والتنظيرات؟ أنا أعلم أنهيدعو لتمجيد الغرائز ويمقت كل تعاليم أخلاقية تدعو لكبت الغريزة، ويرى الروح التي يجري وراءها ويطلب منا أن نجري معه؛ هذه الروح يراها كامنة في الغرائز، فإشباع الروح يأتي من الحواس وليس من المنطق والعقل والقول الفلسفي. أعلم كل ذلك؛ ولكن ما لا أعلمه أن الأخلاقيين هزموه، والدولة هزمته، والسلطة بمختلف أنواعها نبذته. التمسك بالفضيلة لا يزيد مع قلب المفاهيم الأخلاقية. سيظل الإنسان يرفض القتل؛ ليس لأن فضيلته زادت عندما نزعنا عنه الخوف من الموت، بل لأن هناك تخاطر بينه وبين الآخر؛ تخاطر يصنع وعيا مشتركا يبرر كل الأخلاق وكل الأصول وكل هذا القهر للغرائز. إن كانت الأخلاق تمسخ الروح؛ فالموت لن يعيدها، وإن أعادها فالأرجح أنها ستعود في جسد حيوان. ومع ذلك فلديه وجهة نظر؛ وإن كانت مدمرة.

فهويهاجم سقراط لأنه قدم العقل على صوت الروح ونداء الغرائز. ولديه؛ سقراط هو المذنب لأنه أجبر الاثينيين على أن يسقوه السم. فهم لم يقدموا على ذلك إلا من رغبتهم في الحياة التي يريد سقراط أن يسلبها منهم. سقراط يريد قتل الحياة فاستحق العقوبة. ولكن نيتشه؛ وهو المعذَّب والمعذِّب؛ يعلم أن الفلاسفة الذين اتهمتهم بقتل فكرة الصيرورة والتطور والنمو وأنهم لم ينتجوا سوى موميات الأفكار، أنهم ما يزالون إلى اليوم هم من يصنع الحراك الفكري الفلسفي، لا أحد يذكره في ساحة الفكر الفلسفي كما يذكرون كانط وهيجل. ما يزال تجريد الأفكار هي الوسيلة التي يختبرون بها صلاحية هذه الأفكار. ونداء الطبيعة ما يزال يختبئ وراء الكليات التي خاصمهم بسببها. إنه قلب الطاولة عليهم؛ ولكنهم تركوا له تلك الطاولة وجلسوا على الأرض ينظرون ويتفلسفون، وبقيهو ومعه بعض شذاذ الأرض يتأملون الطاولة المقلوبة. فلسفته لم تقنع أحدا لأنها تؤكل مع الخبز، ومن أولى شروط الفلسفة هو التعقيد. نعم؛ التعقيد. نحن مدمنون على التعقيد، والروح البسيطة الشفافة التي ينادي بها لا تأسر أحدا. إنه مهما امتدح هيراقليطس ودافع عنه؛ فإنه سيظل متهما أمام الجميع بعبادة اللذة وبعدمية المعنى. وسنظل رغما عن نيتشه ورغما عنا نُشرك العقل في فهم الإحساسات، فالحواس التي لا تكذب لديه؛ هي تكذب لدينا. وسيظل البشر ينتظرون العالم الحقيقي المختبئ وراء هذا العالم المحسوس؛ ذلك العالم الذي كفر به هيراقليطس. ليس لأننا متيقنون من وجوده؛ ولكن لأننا لا نستطيع أن نتحمل أن تكون الحياة مجرد نكتة مطلوب منا أن نتحمل سماجتها، أو خطأ علينا أن ندفع ضريبته.

لا أدري لماذا أجد لذة في التحدث عن نيتشه. أنا لا أتحدث عنه؛ ولكن أتحدث عن نفسي. ولكنه هو من يبعث في هذا الخطاب اللذة. الاستمتاع الذي يطلبه لنا؛ أجدني أعيشه وأنا أعنفه؛ أو لنقل أعنف نفسي. ليس بطريقة سحق الذات، بل بطريقة تفوق الذات للدرجة التي تستحق؛ بجدارة؛ هذا التعنيف. كما لو أنه سلم في الوعي نبلغه عندما نتفوق. فنصل إلى مستوى أن نجلد الوعي الأول والوعي الثاني والوعي الثالث لنصل إلى الوعي الرابع. في الوعي الأول طلب منا أن نسأل أنفسنا: هل نحن نملك؟ هل نحن استثناء؟ هل نحن في المقدمة؟ إنه وعي ما يزال مرتكز على عقدة الخوف من المنافس؛ وعي متصل بالآخر ولا ينفصل عنه؛ وعي لم يستقل بعد ولم يستوعب مفهوم الحرية. في الوعي الثاني يريدنا أن نتأكد إن كنا نعيش كما نحن وكما نريد أم أننا نمثل؟ هل نحاكي ونقلد أم أننا نبتكر شخصياتنا ابتكارا؟ هل هناك زيف فيما ندعي أننا عليه؟ هل خاضعون للدور الذي أعطانا إياه مخرج المسرحية أم نصنع أدوارنا بأنفسنا؟ وفي الوعي الثالث تسألنا: هل نحن مجرد متفرجون ولا دور لنا نلعبه من الأصل؟ هل ننجز عملا ما بأنفسنا؟ أم أننا نؤثر التنحي والانطواء؟ وهنا لنتأكد من عدم وجود الخداع في الداخل. نتأكد من أننا لسنا مجرد موميات بلا حياة. كما لو أننا ننتقل من التأكد بأننا لسنا واهمين بأننا نلعب الشطرنج بتفوق، إلى التأكد أننا لسنا أحجار الشطرنج نفسها، وصولا إلى أننا لاعبين حقيقيين للشطرنج ولسنا متفرجين، وأخيرا الوعي الرابع حيث نتأكد من أننا نلعب الشطرنج بجدارة، وهنا أسئلتنا ستكون مرتكزة على ماذا نريد؟ وهل نحن نريد أصلا؟ وكيف نصل إلى ما نريد؟

لا يحب نيتشه في الكتابة التنميق والاعتماد الكلي على اللغة الخادعة وكشف كل شيء للقارئ. يجب أن تكون الفيلولوجيا استثمارا في الهدم لا في التعمير؛ فهي خادعة عندما تبني وصادقة عندما تهدم؛ يقول. يجب أن نتعب القارئ فهذا من مصلحته ليكون قارئا منتجا للتصورات وليس مجرد مستهلكا رأسماليا؛ يفكر فقط في اللذة العائدة. هو يكره أن يخاطبه أحد أو أن يتحدث عنه أحد، بل دائما يدعو الواحد منا أن يخاطب نفسه مباشرة دون وساطات من أي نوع، فنيتشه هو وهمٌ يجب تجاوزه والقفز عليه باتجاه الذات. وفي الحقيقة أني لا أختلف معه في ذلك غير أني أشرك ذاتي في ذاته في هذه المرحلة العمرية من الفلسفة الحرة التي تمزج الفلسفة بالأدب والفن وعلم ظاهرات النفس، إذ ما زلت أحاول أن أستجلي منه ماذا يريد من البشر أن يكونوا عليه، وما إن أبدأ في طرح الأسئلة عليه حتى أراه قلقا، يكاد يخرج من ذاته بطريقة الحية التي تغير جلدها المنتهي. أتفهّم كثيرا أن نيتشه وهو الذكي المبدع يكره من محاوريه رتابة السؤال، بل ويكره أن يُسأل؛ وعوضا عن ذلك يُفضل أن يُستفز. يستفز بطريقة الحالم الذي يقفز من نومه مذعورا يسأل نفسه ماذا هناك قبل أن يسأله أحد ما: ماذا رأيت؟

ماذا يعني جنون نيتشه؟ أهذا العقل الجبار يذبل بهذه السرعة وهو في ذروة العطاء؟ هل هي لعنة الرب ?نه رفض الخضوع له؟ هل هي الفجوة الكبيرة بين الايمان والالحاد كما عبر عنها أحدهم؟ أم هي أوهام العظمة والاضطهاد كما يرى ديورانت؟ أم هي العزلة؟ أم هو المرض الذي أنهك الجسد وأضعف البصر وقلّل الحيلة؟ أم هي النساء اللاتي رفضنه؟ إني أرجح أن سبب جنونه أنه لم يكذب على نفسه مطلقا، وصدقه الخالص معها أفقده عقله في آخر الأمر، لأنها لم تتحمل صراحته الشديدة. نحن نكذب على أنفسنا عشرات المرات، ومع كل هذا الكذب نقتل إلهنا في اليوم والليلة عشرات المرات، صانعين كل القشور التي تحمينا من تقلبات التساؤلات. بينما تجرأ نيتشه ونجح في إزالة كل القشور التي تغلف ذاته، وعندما وصل إلى حقيقتها؛ وجد الله الذي كفر به لأنه لم يكن يراه. ولما لم يتحمل رؤية ذاته كإله؛ تنازل لأجل الإله عن عقله، كما لو أنه يناديه ليأخذه معه فما عادت له في هذا العقل حاجة، فهو سبب شقاءه ?نه يجعله يكذب ويكذب على النفس صانعا من كل هذا الكذب طبقات هائلة تحجب عنه النور الحقيقي للإله الذي هو نفسه؛ نيتشه الأعلى. ولكن هل يستدعي معرفة الله الحقيقي كل هذا الجنون؟ وماذا عن جنون العاشقين؛ هل هو لنفس السبب؟ أنا لا أعرف، ولكن ما أعرفه أن هناك الكثير من المغبّشات التي تحول بيننا وبين معرفة أنفسنا. هذه المغبشات هي أنواع الكذب والوهم الذي نحيط به أنفسنا لنكون أقوياء. إننا نحتمي من أنفسنا بالانتظام في جماعة، ونيتشه لم يفعل ذلك؛ فأصبح وحيدا أمام نفسه التي قضت عليه لأنها الأقوى؛ لأنها ذاتا إلهية؛ لأنها الإنسان الأعلى.

يعبّر نيتشه عن نفسه بأنه عبوّة ديناميت؛ مولّع الحرائق. يخاطب أمته الألمانية كأنه جلال الدين الرومي. يخاطبهم بلغة زرادشت الشرقي، لهذا وجدت أننا نحن أولى الناس بنيتشه، فما أكثر ما كان يقول إن الألمان هم آخر من يفهمه! إنه يخاطب بشرا ويدعوهم ليكونوا ربانيين كالرب، وبشر كهؤلاء هم الأقدر على الكفر بالإله الذي يتعسهم، وينطلقوا في رحاب ذوات إلهية تعشق الروح عشقا. ذوات تحطم كل الفلسفات الميكانيكية التي تجعل من الإنسان آلة عدمية لا تبدع إلا لتنال المجد. الله الذي مات لدى نيتشه هو ذاك الكائن الاجتماعي الذي يمنع الانسان من معرفة نفسه، لأنه لو عرف نفسه فسيغدو الإنسان نفسه هو الإله. نحن قتلنا الله ودفناه في المعابد وأصبح علينا أن نزوره باستمرار كي نكفّر عما اقترفناه في حقه، ونيتشه يقول لنا الله الحقيقي في دواخلكم ففتشوا عنه. نيتشه كان يجب أن يكون شرقيا؛ كان يجب أن يقرأ القرآن الكريم، وأظن أنه سيجد فيه الإله القوي الذي يغضب على الكسالى ويستفز المشركين والكفار ويصفهم بالأنعام، هذا الإله الذي يقصم ظهر الجبارين ولا يغفر للمتكبرين ويدعو إلى القيم التي تولّدها الذات كمطلقات، لا تلك المطلقات التي تدخل في الذات كقيم ولا تلك النسبية القيمية التي كرهها نيتشه في مسيح المسيحية. ماذا فعلت المسيحية في نيتشه؟!

كل مفاهيم الذات تسير مستقيمة؛ حتى إذا وصلت إلى نيتشه قلبها رأس على عقب. النفس والروح والعقل والمعنى والقيمة والغاية والأخلاق والأمل والموت واللذة والألم؛ كل هذه المفاهيم ستشكل عند نيتشه معاول للحفر، إذ تختلط على الذات الاتجاهات ولا تعود تعرف كيف تهتدي فترتدّ على ذاتها تحفر فيها وتطلب منها البيان وإلا الانتحار. الأغنياء مثلا لا يتصدقون؛ من يتصدق على الناس هو فقير النفس، أما الغني فعلا فهو الذي يعطي روحه ويبذل نفسه. من يعطي بعنوان الصدقة هو فقير في روحه؛ هكذا يقول نيتشه. وهو ينادي بموت الإله وفي نفس الوقت يدعو إلى الفطرة الدينية. تلك الفطرة التي رآها في تديّن الإغريق القدامى وفي هيراقليطس وفي إيمان باسكال البراغماتي وفي شوبنهاور وفي فاغنر الموسيقي المفضل لديه قبل أن ينقلب. تلك الفطرة التي تجعل الإنسان عاشقا للطبيعة محبا لجمالها متمثّلا له في ذاته ومحاولا عبره أن يكشف عن القبح الذي يملأه. تلك الفطرة التي ترفض مائدة الإله لأن الإله بالنسبة لها هو المائدة. والإلحاد بالنسبة له رفض هذه المائدة المسيحية لا رفض واهبها المطلق الذي يظل مسجونا في أعماق الذات. إنه يبحث عن تلك الروح العميقة التي تجعل الإنسان يعيش حقيقته الثائرة الرافضة الأنانية التي لم تختلط بالجاه والمكانة والكرسي. أي تلك التي تبحث عن الجاه برفضه. إنها استبدال فلسفة الحضور بفلسفة الغياب، حيث تكون الصيرورة هي السبيل الوحيد لبلوغ الإله، وما عدا ذلك يجب الكفر به والإلحاد فيه.

زرادشت هو الآخر من عجائب نيتشه. إنه جبريله الخاص به، والذي ينزل عليه بالوحي. فهو العقل الذي توصل إليه بعد جهد جهيد ليخاطبه ويخاطب العالم من خلاله في نفس الوقت. والغريب أن ما بين اكتشافه لزرادشت وجنونه بضع سنين. زرادشت الذي بعد أن خاض تجارب كثيرة في حياته؛ اعتكف في الجبل متفكرا في نفسه وفي الخير والشر، وهناك رأى النور الإلهي الذي خرج لاحقا مبشرا به؛ طالبا من الشعب أن يكفروا بإله آباءهم وأجدادهم ويتمردوا على الكهنة والسدنة الذين نصبوا أنفسهم حراسا على أبوابه، فخرج عليهم ليقول لهم أن هذا الإله الذي تعبدونه قد مات. وأن الإله الحقيقي موجود في دواخلكم. رفض زرادشت نصيحة الشيخ الراعي؛ الذي كان أول من صادفه وهو نازل من الجبل؛ بأن يبقى في الجبل والغابة مع البهائم فهي ألطف من البشر. رفض ذلك مصرا على نشر تعاليمه التي لم يفهمها أحد كما تنبئ له الشيخ فعلا. فأنّى لهم أن يفهموا الدودة التي ما تزال تسكن فيهم منذ أول الطريق؟ وأنى لهم أن يفهموا القِردية التي هم عليها؟ وكيف سيستطيع أولئك الذين تربّوا على الإله الذي يبحث عن الأضاحي؛ أن يفهموا الإنسان الأعلى الذي هو من يضحي بالإله؟ إن زرادشت هو تلك الشمس المثقلة بالنور التي تنوء عن حمله فتوزعه بسخاء المثقل مما يملك لا بشحّ الباحث عن الأخذ مقابل العطاء. فهو السخي حتى الموت.

ما أكثر ما يرفضه نيتشه! وما أطول قائمة المستقبحات عنده! إنه لما غاص في عمق ذاته نجح في الكشف عن طبقات القبح الكثيرة التي تمنعها من اكتشاف النور، فخرج على قومه بتلك القائمة الطويلة ليقول لهم: هذا ما يمنعكم من معرفة أنفسكم فتأملوا. إنه يرفض علماء النفس الأخلاقيين الذين يريدون أن يحددوا ما الذي يجب أن يفعله الإنسان، فهم ينتهون إلى مطلقات وهمية على شكل قوانين سلوكية غير واقعية البتة. بل هو يرفض مجمل القوانين الطبيعية التي تصاغ بطريقة أخلاقية عما ينبغي وما لا ينبغي، ويعتبرها آخر ملاذات العقل الأسطوري الذي يريد أن يفهم كل شيء، فإذا لم يفهمه حوله إلى أسطورة فوقية خارجة عن قدرة العقل. وبالمثل مع الصياغات الأخلاقية المفروضة على الذات من قبل منظري السلوك البشري. كذلك هو يرفض الشك الديني الذي ينتحر خوفا من الشكوكية، ذلك الشك الذي ينتهي بإلغاء كل المعارف وكل الطبائع ومن ثم إقامة الصليب كيقين لا نهائي؛ إذ كل ما عداه مشكوك فيه. إنه ليس شكا علميا مستقلا يضع الأولوية للمعرفة التي تثبت نفسها، بل هو يقين متلبس بالشك، كما لو أن متعاطيه؛ مهرج على خشبة المسرح يقوم بالخدع السحرية ليخطف وقت الجمهور ويجمع لبابهم وتركيزهم. ومما يرفضه نيتشه أيضا؛ تلك السلطة التي يمارسها قراء التاريخ وهم يستخرجون الكليات التي يريدون تطبيقها وتعميمها على الجميع وفي كل الحالات. إنها من الحتميات التي لا تساعد مطلقا على فهم حركة الإنسان ودوافعه ورغباته كما يعتقد.

نيتشه الغامض يستقي قوته من هذا الغموض، بل ويذم ذوي الأفكار الواضحة المكشوفة ويعتبرهم غارقين في الواقع حتى النخاع، وهكذا بشر يسهل خداعهم لفترة أطول دون أن يكتشفوا ذلك. الغموض لدى نيتشه ليس من نوع ذلك الذي يمارس الأشياء الغامضة ويتعاطى الغيبيات كالسحر والشعوذة، بل يقصد به بالدرجة الأولى؛ غريبي الأطوار. غريب الأطوار هو ذلك الذي يخفي الحقيقة التي تهمُّه هو وحده، فلا يتكلم كثيرا، ويُكثر من اختبار ما حوله، ولا يكشف مشاعره عند كل موقف وكل مجلس. غريب الأطوار يختلف عن الكذاب في أن هذا الأخير يخفي الحقيقة التي تهم الآخرين. إن الحقيقة لدى غريب الأطوار لا تلتقي بحب الظهور، ولا يهمها اعتراف الآخرين بها، بل لعلهم ينبذونها لأنها في الغالب تكون صادمة وتكشف عن الشقاء وبؤس الحال. فغريب الأطوار هو من إذا تكلم صدم الناس، ولا يستقر مع اللايقين الاحتمالي، إذ يجب أن يكون المعنى مكتملا لديه وإلا رفضه وأنكره، أو في أحسن الاحتمالات توقف عنده. نيتشه يقول إننا نحن البشر نسمّي من حولنا ليس بالنظر إلى نواحي القوة فيهم؛ وإنما بالغرابة التي تسكنهم، ومن هنا قد نرفض الأذكياء إذا ما قاموا بممارسات غريبة، ونقدم الأغبياء عليهم لمجرد أننا نفهمهم. هؤلاء هم الذين يلفتون الأنظار ويثيرون التساؤلات والتكهنات، ويحتاجون دائما لمن يشرح مواقفهم وتعاليمهم، ومع كل ذلك؛ نيتشه لا يقول إنهم غير طبيعيين؛ بل العكس، فهؤلاء يعيشون طبيعتهم الخالصة جدا، وهم أبعد الناس عن التكلّف والتصنّع والنفاق، فالحياة لديهم قصيرة جدا، ولا وقت للإنسان إلا أن يعيش طبيعيا، وهذا بالتحديد ما لا يسمح لنا إلا بأن نكون غريبي الاطوار. إنهم يعاشرون التاريخ ويعاقرون التغيّر باستمرار ويرفضون الماورائيات التي لا تورث غير الثبات والسكون، وهم لا يحتاجون أن يبررون وجودهم، إذ لا يعتقدون أنهم استثناء. وحده من يعتقد أنه استثناء يحتاج ليبرر وجوده. إنه القاضي الذي دائما يحتاج أن يدافع عن نفسه، وأن يبقى باستمرار هو المعلم. بينما غريب الأطوار يمضي ملؤه الثقة بأنه لا يكترث هل وكيف يفهمه الناس.

ما أشد ما يدعونا نيتشه لأن نواجه ذواتنا، ربما جلّ فلسفته هي دعوة لمواجهة الذات؛ دعوة للبحث عن الحقيقة فيها، والذات هي التي تنتج الحقيقة. هذه مجمل فلسفته. لذا فهو يدعو وبقوة للبحث اللامشروط عن المعرفة، تلك المعرفة الموصلة للحقيقة. وهو بحث يبدأ من الشك في الحقيقة لا من الإيمان بها، بل هو يعتبر الإيمان بالحقيقة يبدأ عندما نبدأ في الشك فيها، وما قبل ذلك ليس إيمانا. فالإيمان لديه هو صيرورة البحث. هو معانقة الحقيقة وتجسيدها في تطوّر مضطرد. وهو عندما يقول:في البدء كان العبث، وكان العبث هو الإله، وكان الإله هو العبث؛ فإنما لرفض ذلك الإيمان السابق للذات. ومحاكاة العبث الذي يشاهده ما هو إلا من محاكاة الإله نفسه للعبث، بمعنى في النهاية نحن نحاكي عبث الإله برفض الإيمانيات التي لا تأتي من رحلة بحث عن المعرفة. والمعرفة لا توجد لها خطة ولا مسار واحد وما محاولاتنا المستميتة للتنبؤ بها إلا من هذا العبث الذي يملأها، وهذا هو الفكر الحر كما يدعو. عكس ذلك هم المثاليون الذي خسروا انسانيتهم بتحولهم المأساوي إلى الحتميات الزمنية. الزمن يصبح وحشا قاتلا لكل ما هو طبع إنساني، فهؤلاء المثاليون المترعون بالمسارات الدقيقة والمخطط لها مسبقا لا يستطيعون مواجهة ذواتهم، ويعادون من يذكرهم بضعفهم أمامها؛ أمام تلك الذات التي تكاد تخرج من جسدها بطريقة الانفجار العظيم، ولكن المثاليات تخدّرها وتشمّعها. لا يمكن أن يكون المفكر مفكرا مالم يكون مزعجا؛ يقول نيتشه. مزعجا لذاته. مزعجا للإله الذي يسكنها. يجب على المفكر أن يرفض ذلك الانتظام الدقيق للإله والتخطيط المحسوب بالملليمتر الذي يتحدثون عنه. الإزعاج هنا هو رفض هذه التخطيط والكشف عن زيفه وكيف أن الإله نفسه لم يستطع أن يكون مزعجا.

إن مواجهة مع الذات بطريقة نيتشه تتطلب الاعتراف أنه من الصعب أن نرى الأشياء كما هي بدون إضافات من عندنا. هذه الصعوبة ليست سيئة عموما إلا إذا اقترنت بالقطع والجزم أن هذه الرؤية هي الواقع تماما. وهنا يجب مواجهة الذات فعلا. فطريا لا يمكننا التوقف عن رؤية الأشياء والأفكار من حولنا كما لو أنها أفراد يجب إما أن نتصارع معهم أو أن نرتبط بهم ونرعاهم. إننا نرتّب مباشرة فور إدراكنا لموضوعات المحيط الخارجي؛ نرتب علاقة انفعالية معينة. وهنا يجب الاعتراف بأن كل واحد منا يحتضن في داخله مطلق شخصي يمارس من خلاله الاستبداد بكل ما يصل إلى الذات. إلى أي مدى نستطيع أن نضيف عبارات من قبيل ربما وأحيانا ومن المحتمل ومن المتوقع؟ هل نستطيع أن نراقب أنفسنا لنتأكد من كسر الاستبداد الشخصي للمطلق الذي يسيطر علينا؟ هؤلاء القطعيون الجزميّون هم الظلاميون الذين يشوهون صورنا عن العالم ويظلمون معرفتنا به، بل هم حتى أولئك الذين يعقدّون شروط الذكاء ويغلّفون الظلام بالنور. كانط مثالا ألمانيا يعنيه نيتشه؛ فهو يثير الشك في كل شيء ليس لداعي المعرفة وإنما للدخول في حضيرة الايمان بالشك حتى في العقلانية. وما أكثرهم لدينا يا نيتشه!

يحذر نيتشه من الفلسفات التي تجعل الظواهر الجمالية ضبابية وغير قابلة للتمييز. عندها سيختفي النقد لصعوبة المقارنة بين الظواهر. وسيتبذّل الفنانون تحت وطأة البحث عن المتعة في الفن. ويحذر كذلك من الأنساق الفلسفية ويعتبرها سيئة بالنسبة للعلماء الذين ينذرون أعمارهم لخدمة العلم. إذ تتحول ساحة العلم إلى بيداء يحيط بها السراب من كل ناحية على حد تعبيره. إن كل ما يُقنّن النظرة التي يجب أن ننظر بها للحياة مرفوض لدى نيتشه. ما يجب أن يكون هو العكس؛ وهو أن نساعد الناس لينظروا إلى الطبيعة كما هي؛ نساعدهم كي يتخلصوا من الإضافات التي يخلطونها بها وهم يتأملونها، لا أن نشحنهم بالأطر والماقبليات والقوانين التي سيحاكمون الحياة في ظلها لاحقا. إنه يطلب مثلا من الشعراء أن يكفوا عن وصف العالم وظواهر الحياة والمجتمع كأنهم متيقنين مما هي عليه وكأنهم ملمّين بالأشياء ويفهمون حقيقتها. بل يجب دائما أن يشكّكوا الناس فيما يرون وأن ينزعوا عنهم ثوب اليقين بالواقع، يجب أن يكسروا المرآة التي تولد لديهم الحب عندما يشاهدون أنفسهم فيها. وليس بعيدا عن ذلك مسألة تمييزه الشخص الفاضل عن الشخص الأخلاقي، فالفضيلة ليست مرادفة للأخلاق لدى نيتشه. الأخلاق هي من الماقبليات التي تؤطّر وتُنمّط الإنسان وتبعده عن ذاته، بينما الفضائل هي التي ينميها ويطورها الإنسان بنفسه وينتجها في ذاته من محاولاته لمحاكاة جمال الله الذي يتذوّقه يوما بعد يوم.

يركز نيتشه أكثر على مسألة الأخلاق والفضائل في فلسفته. التضحية مثلا لا تأتي فقط من ممارسة أخلاقية؛ بل كل عمل نقوم به بتبصر ينطوي على تضحية. سواء كان حسنا أو سيئا. ينطوي على تنازل من نوع معين. وبذلك تكون عظمة الإنسان متولدة من هذه التضحيات الداخلية التي ربما لا يشعر بها إلا هو، وليست من تلك التضحيات الأخلاقية التي يمدح عليها ويحصل على التقديس من الآخرين بسببها. إن ما يستطيع الإنسان أن يفعله أهم بكثير مما يفعله فعلا، فما يحدد طبعه أكثر هي تلك التجارب التي لم يقم بها بعد، فهي التي تحدد الخير والشر الذي يسكنه، وليست التجارب التي فعلا خاضها. لهذا يعتقد نيتشه أنه من الصعب جدا معرفة العمق الأخلاقي لدى الإنسان على حقيقته. الإنسان مشروع غير مكتمل يقول نيتشه، وما يكمّله هو الصيرورة والنمو المتناغم مع حركة الطبيعة. المرء يرفض ذلك، ويريد أن يكون دائما الإنسان الأخير؛ الإنسان الغائي؛ الإنسان النهائي، ذلك الإنسان الذي يهرب من الألم ويبحث عن الرفاهية والدعة والراحة ويطلب كل شيء لنفسه. ذلك الإنسان الذي يبتكر السعادة. ولا يريد أن يكون الإنسان الأعلى؛ المشروع المكتمل. يجب أن يكون شيء من الفوضى في داخلنا كي نلد نجما راقصا يقول زرادشت نيتشه. وبدون ذلك سيأتي الويل مع الإنسان الذي لا يستطيع أن يحتقر نفسه. يريدنا نيتشه أن نحتقر أنفسنا كي نلد الإنسان الأعلى. إنها معادلة صعبة وقاسية. ذلك لأن دعاة النوم كثيرون جدا. هم أولئك الذين يحثّون على الفضيلة لينام الإنسان مرتاح البال، فالفضيلة لديهم هي أن ينام المرء بسلام. ولا شك أن النوم أخف وألذ من التعب والشقاء.

يتحدث نيتشه كثيرا عن الإنسان الأعلى. إنه موازيا للإنسان الكامل في الفلسفات الشرقية. ولكن نيتشه يشقّ طريقا مختلفا للوصول إليه. فهو ليس ذاك الذي يكابر نفسه ويقمعها، بل ذاك الذي يمنحها ما تشاء لتتحطم تحت وطأة ضربات الإشباع المتتالية. نوع من محاولات البحث والاستكشاف للوصول إلى ما تريده هذه النفس حقيقة. ما الذي يجعلها عارية أمام الإرادة؟ إنها تنتج وتولّد الفضائل بالتدريج لتنال الحكمة. إن الإنسان الأعلى يتطلب الوصول إليه أن يكون الواحد منا مبدعا شقيا. أن يحطم الألواح القديمة لمدعي الصلاح والنقاء بين الناس حتى وإن كان هو نفسهالمدعي. يقلب أمزجتهم ويزجر تعاليمهم ويحتقر عدالتهم الزائفة. هذا الإنسان يريد أن يتحرك في مجتمع يتعكر ويتبعثر ليتحرك ويتطور، لذا هو يرفض المجتمع المرتّب، ويعكره لأجل أن يساعده في اكتشاف الإنسان الأعلى. طريق الإنسان الأعلى هو بالعقل الحر الذي يتحول إلى جمل يحمل كل الأثقال وأشكال الزهد والصبر على الأذى والمشقة والاحتقار؛ كل ذلك من أجل أن يتحول لاحقا إلى أسد يملك صحراءه وينطلق فيها بملء حريته رافضا الإيمان والأوامر التي تأتيه من الخارج؛ إذ أصبحت لديه حرية الإرادة النقية التي لا تنقصه بعدها سوى القدرة على توليد الإيمان والقيم والأوامر تجاه الذات والعالم، وللوصول لذلك فإن الأسد يجب أن يتحول إلى طفل؛ تلك الإرادة الحرة التي تحرك نفسها والتي تفهم ال "ينبغي عليك" كحق من حقوقها يصنع منها عالمه الخاص الذي لا يجرؤ أحد على اختراقه.

إن أكثر ما يعيق المرء من اكتشاف الإنسان الأعلى فيه هو عالم المثل، لهذا يرفض نيتشه هذا العالم ويحذر منه ويعتبره كذبة أضرت بالواقع وحرمتنا من النمو والتطوّر فيه، ذلك لأنه غلّفه وسوّره ومنعنا من الاحتكاك به. وهو يلوم أفلاطون ويقرعه بشدة على فلسفته المخدّرة هذه، ويصفه بالجبان أمام الواقع. أفلاطون هو الجسد الذي يأس من الجسد فابتكر عوالم الماوراء، والألم الذي يحمله دفعه لأن يفتش عن الإله الذي انتقل من ذاته إلى غيره؛ هكذا يقول نيتشه؛ والذي بدوره يحاول أن يخلصنا من قبضة أفلاطون، فيطلب منا ألا ندفن رؤوسنا في رمل الأشياء السماوية. يطلب منا أن نحب الأرض. أن نعشق الأنا وهي تتأقلم مع تناقضاتها. أن نتشبع بالطبيعة. ألا نكون كالمرضى الذين يحتقرون الجسد والأرض ويبتدعون العالم السماوي وقطرات الدم المخلصة، والذين من شدة رغبتهم في التشبه بالإله الخارجي؛ يعتبرون الشك خطيئة. وفي الحقيقة هم لا يؤمنون لا بالعوالم الماورائية ولا بالمخلص. لا يؤمنون سوى بجسدهم، غاية الأمر أنهم مرضى بداء كره الجسد والرغبة في الخروج منه.

ربما لو جاز لي أن أسمي الإنسان الأعلى فهو الذي خاطب موسى الكليم، فقال له: "وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى". وهو مَدْرجٌ أعلى في الوصول إلى الله، حيث ينقطع الانسان من كل شيء إلا الله. إنها جاذبية معاكسة لا تبدأ من الإنسان وإنما من إلهه الذي من شدة بحثه عنه؛ يقول له لقد وصلت لأني أنا الذي أبحث عنك، فخذ رسالتي. هناك في العمق يوجد الإنسان الأعلى الذي يتوق إليه الإنسان. يوجد الله الذي هو أقرب إلينا من حبل الوريد. هو الله المتأنسن لا الله المتعالي. الله الذي هو جزء من الروح؛ بل هو الروح كلها. تختلط مع الإنسان وتمتزج به لتكون رحلة الإنسان إلى الله هي رحلة تنبع من عمق حاجة الإنسان إلى الله، فيصبح هو الذي يولد وينتج المعاني والصور والقيم التي ستكون في مرحلة لاحقة صفات الإنسان الأعلى؛ ليست تلك الصفات المستقلة التي يمكن الإشارة إليها بالأصابع؛ بل هي التجسد الحقيقي للإنسان الإله وهو يمشي على الأرض عاشقا ومعشوقا. والعظمة في هذا الإنسان ليس لأنه ينظر إلى الأعلى؛ بل لأنه ينظر إلى الداخل. بل إن النظر إلى الأعلى لا يساعد على الارتقاء؛ العكس هو الذي يحصل. إذ يرتكس الإنسان في الأسفل أكثر كلما تطلع إلى الأعلى. الإنسان كالشجرة؛ يقول نيتشه، كلما نظر إلى الأعلى وتسامى نحوه؛ كلما امتدت جذوره إلى الأسفل حيث العتمة والمجهول والشر. لا يجب أن ننظر إلى الأعلى كثيرا كي لا نتمدد في الأسفل. يفقد الثقة في نفسه من يريد الأعلى؛ يخاف ويقلق ?نه يعمل حسابا للخسارة. لا يريدنا نيتشه أن نقفز على الدرجات. سيكثر التعثر والسقوط. سيكثر الحسد تجاه من يسبقنا. سنتعالى على الناس وسيصيبنا الغرور والبارانويا. إن الشجرة تنتظرها الصاعقة، وكذا من يريد الصعود. يخاف الصاعقة أن تأتيه في أي لحظة. من يريد أن يحطم السجون ما يزال مسجونا. من يريد الحرية ما يزال ليس حرا.

الوحدة هي السبيل الوحيد لبلوغ الإنسان الأعلى. يمتدح نيتشه الوحدة كثيرا. وعلى لسان زرادشت يقول للفتى الذي كان يهرب من زرادشت: فر إلى الوحدة يا صديقي. سيعرف الشجر والصخر كيف يشاركانك وقار الصمت. الوحدة هي الفضيلة الرابعة مع الشجاعة والتبصر والتعاطف؛ يقول نيتشه، مع العلم أن كلمة فضيلة نفسها لدى نيتشه تعني ما يصنعه الانسان بنفسه ومن إمكاناته وملكاته الحقيقية وليست من أخلاق المجتمع تلك التي ينتقصها. متى ما تنتهي الوحدة يزداد صخب الممثلين الذي يملؤون ما حولنا؛ كما لو كنا في سوق عمومية يتكاثر فيها الذباب مثيرا الاشمئزاز. وفي نفس هذا الإطار يتساءل نيتشه: ماذا يعني أن يكون لدى الواحد منا عقل ولا يعي ذلك؟ ويجيب: إنه يعني أنه يمثل. يلعب دور مرسوم له. يردد كلمات مصطنعة، ويخلق مشاهد غير حقيقية، ويعيش مواقف لإضحاك وتسلية الآخرين لا أكثر. إنه مغتصب بالنعم أو اللا. ويكون مترع بالمطلقات التي لا يحق له أن يفرزها ويفحصها، لأنه دائما مشغول بتسلية الآخرين. الوحدة تنقذ من هكذا تمثيلية يُراد للواحد منا أن ينخرط فيها بشكل من الاشكال. ويلفت نيتشه نظرنا إلى ضرورة أن نحذر المدائح، لأنها نوع من الاقتراب من الدم لامتصاصه عما قريب. وبالمثل يحذر من مطاردة هؤلاء الذباب، فلكم هو بائس أن يعيش الواحد عمره مقشة للذباب. إن كل ما يثير التفكير على الدوام هو مصدر للارتياب؛ يقول نيتشه. والوحدة تعطينا الفرصة لفحص ذلك والتحقق منه.

الدين عند نيتشه لغز غامض. ليس لأن الدين لغز ولكن موقف نيتشه من الدين هو اللغز. هو للوهلة الأولى يبدو وكأنه يرفض الدين تماما، ولكن لدى القارئ المتلبس بروح نيتشه؛ نيتشه يرفض الديانات لا الدين نفسه. يرفض الآلهة لا الله الغائر في الإنسان. يرفض القديسين وأشكال التدين ومظاهره وطقوسه لا التدين الذي يتوصل إليه من أسئلته الكبرى. إنه ينطلق من الإلحاد ليصل إلى الدين الذي يكون أداة للوصول إلى ا?نسان الأعلى. يجب قتل كل الإيمان السابق بأي نوع من الآلهة لبناء الإيمان الجديد بالإنسان الإله أو بالإله الإنسان. الدين عقبة، ولكي يتحول إلى جسر؛ يجب الكفر به أولا. إنه يرفض دين الناس لأنه سلب للإرادة. كل ما يسلب الإنسان إرادته؛ يرفضه نيتشه. وسلب الإرادة هذه هي التي تصنع قداسة القديس. لهذا هو يحارب رجال الدين ويصفهم بمسلوبي الإرادة. إذ لا يستطيعون أن يعيشوا الوحدة مع ذواتهم وإلا انفجروا وتنازلوا عن هذه القداسة. القداسة نفسها يفسرها نيتشه بأنها إعجاز ناتج من تتالي الأضداد الأخلاقية في القديس. شر يتحول إلى خير وأخلاق متضادة تتالى لتصنع إعجازا مدهشا يجبر عقول الأتباع على التسليم لهذا القديس بالعظمة. لا شك أنه عظيم ذلك الذي يستطيع أن يتنازل عن ذاته وعن إرادته. إجلال القديس هو إجلال للاستبداد بالذات. القديس يستغني طوعا عن ذاته ويجتهد في أن يذيبها في الله. والناس يجلون هذه القوة المتفوقة وهذه الإرادة القوية والقدرة على التنازل عن الذات. وهم بهذا الإجلال يجلون شيئا في أنفسهم. إنهم يظنون أن هناك سرا عظيما يجعل القديس يناقض الطبيعة. إنهم يتعلمون منه خوفا جديدا، ولهذا هم يجلونه. ولكن نيتشه يلفت انتباهنا إلى حس الرهافة القادم من براءة وعفوية الطبيعة التي يتشبع بها الإنسان الحر، ذلك الحس المناقض تماما لأي محاولة للتمنطق والتفلسف حول الله والروح والإرادة. إنه حس الانصراف عن السؤال الذي يشكل في نفس الوقت اشتغالا بالسؤال. اشتغال من نوع بحث عن الماء بدون الخوف من العطش. الرهافة التي تقود إلى الدين الحقيقي هي موضوع عميق جدا يحتاج فعلا إلى وحدة للوصول إليه والشعور به.



http://i61.tinypic.com/2lid2bp.jpg

بالتوفيق للجميع

موقع وظائف للعرب في تونس والجزائر والمغرب العربي والخليج والشرق الاوسط واوروبا
من هنا (http://www.jobs4ar.com/jobs/index.php)

http://i61.tinypic.com/fem9w0.jpg (http://www.facebook.com/jobs4ar)

sisko
08-25-2015, 07:31 PM
مقال فلسفي : نيتشه؛ ثورة الإنسان على نفسه
مقال فلسفي : نيتشه؛ ثورة الإنسان على نفسه
مقال فلسفي : نيتشه؛ ثورة الإنسان على نفسه