المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : العلم بين الحقيقة والنمذجة للمقبلين على امتحان البكالوريا



مناظرات الوظيفة العمومية
05-29-2014, 01:44 PM
العلم بين الحقيقة والنمذجة للمقبلين على امتحان البكالوريا



منتدى الفلسفة منتدى الباكالوريا - فلسفيات الباكالوريا آداب وشعب علمية بكالوريا علوم - باكالوريا آداب - منهجية تحليل النص بكالوريا آداب (http://www.jobs4ar.com/jobs/forumdisplay.php?f=16)



العلم بين الحقيقة والنمذجة

يبدو أنّه "لم يعد بالإمكان أن نفكّر بعد إنشتاين مثلما كنّا نفكّر قبله"..فلقد انتهى الأمر بالعلم في ظلّ التطوّرات التي شهدها انطلاقا من بداية القرن العشرين، بالإضافة إلى ظهور مباحث علمية جديدة (الألسنية، علوم التربية، علوم الاتّصال، المعلوماتية، السيبارنيطيقا) إلى الانثناء على ذاته ومراجعة جملة أسسه ومبادئه ومعتقداته، حيث لم يعد بإمكان منظومة المفاهيم السائدة استيعاب ما تطرحه التطوّرات العلمية من إشكاليات. وقد كان لذلك الأثر المباشر في طرح عديد القضايا ذات الصبغة الابستيمولوجية والفلسفية والمتّصلة بطبيعة المعرفة العلمية. ولعل أهم ما أفضت إليه هذه المراجعة ظهور مصطلح النمذجة التي تعبر عن وصف لمسار اشتغال العلم وكيفية بناءه أو إنتاجه .

ترتبط النمذجة ببنية كلية تضم التركيبي والدلالي والتداولي أي أن النمذجة بنية كلية تستجيب لكل انتظاراتنا من العلم، إذ تفضي إلى تجاوز القول بأن "العلم لا يفكر" مادام لا يهتم فقط بالإجابة عن سؤال كيف؟ وإنما أيضا عن سؤال لماذا؟ أو من أجل ماذا؟، اعتبارا للطابع التليولوجي للعلم. فالنمذجة تهتم بالنظر كما بالفعل وكأن النمذجة تستعيد العلم بما هو حكمة نظرية وعملية، أي حكمة دافعها الكلي ومطلبها الكلي.
إنّ من بين مبررات التجاء العلم إلى النمذجة بما هي مسار أو تمشي أن العلم يهتم بالتفكير في المركب ، فالوعي بالطابع المركب للظواهر والأحداث والسلوكيات، هو ما أفضى إلى القول بالنمذجة، وهو ما يعني أيضا أن النمذجة تسمح بالربط بين الاختصاصات المختلفة وتمكن من النظر فيها على ضوء تقاطعها تجاوزا للطابع التجزيئي أو الذري وبالتالي التفكير في الكلي وطلبه.
فما المقصود بالنمذجة وأي دلالة للنموذج وأي منزلة له في الفكر العلمي؟ هل يعد مجرد انعكاس لواقع معطى أم أنّه إنشاء لواقع لا يتحقق إلا بالقطع مع المعطى؟ هل تمثل النمذجة مجرد مسار أو منهج أو طريقة يتبعها العلماء في بحثهم ليكون بذلك وسيطا نفوض له وظيفة المعرفة أم أنّه مجرد إجراء لتجسيد المعرفة في صور أو رسوم أو بيانات فيزيائية كانت أو مجردة ؟ أم أنّ النمذجة لا تعد طريقة علمية وإنّما طريقة تستعمل العلم؟

يعرّف النموذج حسب فاليزار" بما هو كل تمثل لنسق واقعي سواء كان ذهنيا أو ماديا، يتم التعبير عنه بلغة أدبية أو في شكل رسوم بيانية أو رموز رياضية" كما يعرّفه دوران بقوله" يشمل معنى النموذج في دلالته الأكثر اتساعا كل تمثل لنسق واقعي مهما كان شكل هذا التمثل". والنمذجة وفق هذا التحديد هي التمشي المنهجي الذي يفضي إلى إنتاج النموذج والذي يعني التمثل لكائن ما يوجد في الواقع ولكيفية اشتغاله ، وتفترض النمذجة أنّ كلّ كائن هو بمثابة منظومة تشتغل على نحو ما، ليكون النموذج منزلا ضمن حقل الفكر النسقي وهو ما يعبر عنه فاليزار بقوله " لا ينفصل مفهوم النسق في الحقيقة عن مفهوم النموذج منظورا إليه كنسق تصوّري لنسق واقعي. وكل نسق واقعي لا يعرّف إلا بالعودة إلى نماذج تصورية (التصورات الذهنية أو التصورات الصورية) وعلى العكس من ذلك فإن كل نموذج يمكن اعتباره نسقا خصوصيا أيا كانت طبيعته فيزيائية (maquette) أو مجردة(ensemble de signes ) "
يجد النموذج أصوله في التقنية، و يفيد الرسم الهندسي أو الموضوع المختزل في مثال مصغر أو في شكل تبسيطي والذي ينتج المشروع (الموضوع) ويعبر عنه ، إذ يمكن أن يخص بعمليات حسابية أو اختبارات فيزيائية لا يمكن تطبيقها على الموضوع ذاته، لذلك اتخذ النموذج طابعا منهجيا، إذ يشير إلى كل الصور أو الإنتاجات التي تخدم أهداف المعرفة.
ينبغي أن يفهم إذن من كلمة نموذج وحدة معرفية أو إدراكية مستقلة تعبّر عن نفسها في شكل علاقات صورية بين مقادير.وانطلاقا من مجموع الفرضيات يسمح النموذج من استخلاص أو اشتقاق جملة من النتائج أو الاستتباعات في صورة نسقية (البعد التركيبي). أما من الناحية التجريبية فيكون للنموذج منزلة ابستيمولوجية هجينة، إذ لا يمكن النظر إليه بما هو نتاج نظري خالص، ولا أيضا بوصفه حصيلة ملاحظات. إنّه ينشئ أيضا حقلا من المفاهيم(موضوعا مفهوميا) مرنا قابلا لمسار متدرج للتعديل (البعد الدلالي ). ومن الزاوية الإجرائية فإنّ للنموذج منزلة عملية أو تطبيقية أصيلة بما أنّه يضم عناصر وصفية وأخرى معيارية، تسمح له أن يكون فاعلا وناجعا وقادرا على تحقيق الغايات التي حكمت إنتاجه ( البعد التداولي ).
أ.البعد التركيبي:
يصاغ كلّ نموذج حسب فاليزار في لغة صورية إلى حدّ ما. وتتكوّن كلّ لغة صورية من مجموعة عناصر أوّلية أو رموز ومن مجموعة قواعد منظّمة لهذه الرموز في علاقات قابلة لتأويل دلالي. وبشكل أدقّ يتحدّد النسق الصوري بما هو لغة صورية تقوم على مجموعة أكسيومات (مصادرات) ومجموعة قواعد استنباطية هي ما به تتحدّد المبرهنات. ويكون النسق الصوري إمّا أكسيوميا أو شبه أكسيومي، ذلك أنّ النسق الأكسيومي هو النسق الصوري الذي تكون كلّ أوّلياته ومصادراته وقواعده بيّنة الوضوح، مثال ذلك الميكانيكا الكوانطية. تبعا لذلك ترتبط مستويات صورنة النموذج بنوعية اللّغة المستعملة التي إمّا أن تكون أدبية أو رمزية أو رياضية منطقية. وبحسب اللّغة المعتمدة يكون النموذج رمزيا، كيفيا، معياريا، أو رقميا كمّيا. كما يتكوّن البعد التركيبي للنموذج من ثوابت (constants) ومتغيّرات (variables ) وثابتات (paramétres ) وعلاقات (relations ) [علاقة حدّ أو علاقة إحصائية أو علاقة سببية أو علاقة اشتراط أو علاقة تبعية...]. وعلى مستوى خاصياته التركيبية، يقتضي النموذج أن يكون متماسكا (أن لا يتضمّن مبرهنات متناقضة)، تامّا (أن لا يتضمّن قضايا لا تقبل البرهنة أو الدحض)، مستقلاّ (أن لا يتضمّن مصادرات تحتاج أن نستنبطها من مصادرات أخرى)، قطعيا (أن يتضمّن تمشّيا برهانيا يسمح بالحكم على قضيّة ما بالصواب أو الخطأ)، مشبعا (أن لا يحتاج إلى استخدام أكسيومات إضافية من خارج النسق). ويقوم النموذج في بعده التركيبي على مبدإ الثبات داخل تغيّر الإحداثيات والوحدات.
ب.البعد الدلالي
يتحدّد البعد الدلالي للنموذج، أوّلا في علاقة بالنسق الذي يمثّله وفق علاقة تفاعلية تأخذ بعين الاعتبار المسافة التي تصل بينهما بهدف جعل النموذج أكثر فأكثر ملائمة.
ثانيا في علاقة بمجال صلاحيته التي تتحدّد في علاقة بالملاحظ الذي يقرّ بصلاحية النموذج وفي علاقة بفئة الأنساق التي يكون صالحا في إطارها وفي علاقة بمجال صلاحيته زمانيا ومكانيا.
ثالثا في علاقته بالواقع، "فكلّ نموذج في بعض وجوهه، يمكن أن يعدّ وسيطا بين حقل نظري يمثّل تأويلا له وحقل تجريبي يمثّل تأليفا له"[. وتتحدّد طبيعة النموذج بحسب نوعية العلاقة التي له بالمرجع الذي يحيل عليه والذي يعبّر عن بنيته وكيفية اشتغاله، فيكون النموذج تبعا لذلك إمّا شاملا أو جزئيا أو مغلقا أو مفتوحا.
وأخيرا في علاقة بخاصياته الدلالية التي يضبطها فاليزار في الصلاحية النظرية والصلاحية التجريبية والثراء والقابلية للدحض والمرونة والبساطة.
ج. البعد التداولي
يمكن تبيّن هذا البعد على المستويات التالية:
أوّلا من جهة أهداف النموذج بما هو تمثيل لكيفية اشتغال نسق ما بغرض معرفته والتحكّم فيه.
ثانيا من جهة العلاقة بين منتجي النماذج ومستعمليها والفاعلين في النسق على اعتبار أنّ المعرفة التي تقود النموذج هي معرفة موجّهة نحو الفعل و"أنّ الحقيقة ذاتها لا تعدو أن تكون سوى الفعل عينه".
ثالثا من جهة تأثير النموذج في الفرد أو المجموعة على مستوى التمثّلات و التصوّرات والأفعال وتأثيره في الواقع وما يمكن أن يحتمله النموذج ذاته من تعديلات وفق ما تسمح به القيم الاجتماعية والوسائل التقنية المتاحة.
رابعا من جهة معاييره التداولية، حيث يشترط في النموذج أن يكون ذي أداء ثابت وايجابي، بسيطا، مرنا، وقابلا للتوظيف.
إن التساؤل عن الأساس الإبستيمولوجي للنمذجة، يفيد التساؤل من ناحية عن الدوافع التي ولدت فكرة النمذجة بما هي السمة المميزة للبحث العلمي من ناحية وعن طبيعة المعرفة العلمية منظورا إليها بما هي إفراز للنمذجة.
يبدو أن أزمة الأسس في الرياضيات وأزمة الحتمية في الفيزياء، وما تولد عنها من أزمة اليقين العلمي وتهاوي الصورة التي ترسخت عن العلم بما هو خطاب تفسيري كلي ومطلق وتأرجح العلم بين الضرورة والمواضعة وتأرجح الحقيقة بين المطابقة والصلاحية والحديث عن أزمة المنهج التجريبي وتحديدا التراجع عن دور التجربة ومنزلتها بما هي معيار اليقين العلمي،.كما أنّ ظهور علوم أخرى أنتجتها التطورات التقنية والتكنولوجية الهائلة وخاصة على إثر الثورة الإعلامية: علم التحكم – القرار- التواصل – الذكاء الرامز- التكنولوجيا التقنية – الهندسة – التربية – البيداغوجيا- التنظيم الخ... هذه العلوم مثلت امتدادا لسلسلة اللايقين الذي أفرزته الميكانيكا المعاصرة في دراستها لظواهرها، واللايقين هنا ليس لا يقينا في مستوى النتائج فحسب بل أيضا في مستوى الانتماء أو التحدد كعلم، فصفة العلم لم تعد تصح على هذه العلوم الجديدة. عوامل حتمت ضرورة مراجعة تصورنا للعلم وللمعرفة العلمية لتكون بذلك النمذجة الحل لتجاوز الشك الذي أصبح يحيط بالعلم وبالمعرفة العلمية.
إن النظر إلى النمذجة بما هي تجاوز للتمشي المنهجي في العقلانية الكلاسيكية يعني فيما يعنيه تغير نظرتنا للمعرفة العلمية ذاتها في علاقة بالواقع أساسا، إذ تفترض النمذجة تجاوزا للعلاقة التقليدية بين العلم والواقع، وإقامة علاقة جديدة لا يمكن أن تفهم إلا على أساس تحديد منزلة المعرفة : هل هي معطاة ، موجودة بشكل سابق عن تدخلاتنا النظرية،هل هي تفسير موضوعي للوقائع التي نتصورها على أساس علاقات قائمة بين أسباب نكتشفها[ براديغم الكون المنحوت/ المصنوع الذي صاغه نيوتن وسيطر على نظرية المعرفة طيلة قرنين من الزمن] أم أن المعرفة هي بناء نظري ، تمثيل كشفي أو قصدي للسلوكيات أو للعلاقات التي نتصورها بحسب غايات أو أهداف نبتكرها[ براديغم الكون المبني الذي بدأ أرخميدس في نحته وتواصل مع دي فينشي وبول فاليري وغاستون بشلار وجان بياجي وسيمون وإدغار موران]
هذان النموذجان الإرشاديان(البراديغمان)، الأول براديغم الاكتشاف(كشف واقع) والثاني براديغم الإنشاء(بناء تمثلات عقلانية)، يحيلان على ضربين من المعرفة: معرف/موضوع والتي تقوم على الوصف والتفسير باستخدام لغة الرموز الرياضية. أما الضرب الثاني من المعرفة فيتعلق بالزوج معرفة/ مشروع: ولعل رمز النحلة والمهندس الذي أشار إليه كارل ماركس إنما يقترح تصورا للنموذج ـ التمثيلي لمعرفة ترتبط ببراديغم المعرفة/المشروع، فنموذج الخلية يبنى في ذهن المنمذج قبل أن تكون الخلية معروفة، أو قبل أن تكون إن شئنا موضوع معرفة، هذا المثال يقدم لنا صورة المعرفة العلمية المنشأة أو المبنية والتي تفترض أن الواقع العلمي ليس معطى مادمنا لا ننشئ إلا ما ليس موجودا، فالبراديغم القائم على منطق الاكتشاف يرفض كل محاولة للإنشاء أو البناء،أمّا الابتكار والتصور فيعني البحث عما ليس موجودا وإيجاده، والبحث وإيجاد ما لا يوجد لا يحيل على براديغم معرفة موضوع ما وإنما بناء معرفة لمشروع ما.
• النموذج والنظرية
قد يفهم من النمذجة، أن النموذج هو مجرد حلقة في مسار النمذجة،أو هو مجرد تجسيد لمشروع نظري أو تطبيق لنظرية مما يوحي بأن النموذج تمثيل حسي أو شكلي لنظرية تم إنتاجها سابقا، مثل هذا الفهم يبدو تبسيطيا وسطحيا وفق ابستيمولوجيا النمذجة، إذ أنّ النموذج سواء كان إيقونيا رمزيا أو صوريا، أو تصميما هندسيا يفهم على أنه نبع معرفة وليس نتاج المعرفة فهو لا يصف أو يعرض معرفة/موضوع وكأنه مجرد مثال، فهو يقدم معرفة/مشروع بصورة ماقبلية والتي لا توجد بشكل مستقل أو لنقل أنّ النموذج يوجد معرفته الخاصة،إذ تنتج المعرفة/المشروع وتتمثل بواسطة تصور النموذج وليس بالتحليل. وعلى هذا الأساس فإن طريقة بناء النموذج لا تتبع منهجا تحليليا (تحليل فاستنتاج) وطرق بيان صلاحية نموذج لا تكون من نمط الفرضي الإستنتاجي التجريبي،إذ يتبع في بناء النموذج طريقة [ projective/systémique] البرمجة والتي تفيد القصد ـ التصور وطرق إثبات المشروعية تكون أكسيومية أو شبه أكسيومية استقرائية تداولية أو براغماتية، إذ على المنمذج أن يحدد مشروعه (مصادراته، نظريته في المعرفة) وأن يتوافق على أنّ المعرفة التي يمثلها هي تجسد وفعل معرفيين أو عرفانيين، وهو ما يؤكد أن النموذج ليس مجرد تمثيل حسي لنظرية بل ينبغي النظر إليه بما هو نظرية تبنى عقليا وتتميز ببنية مركبة مادامت تضم في آن بعدا تركيبيا وبعدا دلاليا وآخر تداوليا، والحقيقة أن علاقة النموذج بالنظرية هي علاقة ملتبسة من خلال العودة إلى مواقف المهتمين بالنمذجة والقائمين بها، فإذا كان لوموانيو في كتابه الإنشائية أو البنائية يشدد على ضرورة النظر إلى النموذج بما هو نظرية، بما أنه تصور أو تمثل مثالي للواقع وليس مجرد تبسيط أو رسم اختزالي يجسد النظرية، ذلك أن بناء النموذج يحتاج
إلى تصور ما قبلي عقلاني يحدد الأسس النظرية، وإلى تحديد ضرب من التأويل يصل هذه الأسس بواقع جهوي افتراضي ، وإلى ضبط جملة الأهداف التي تحكم بشكل قبلي إنتاج النموذج بما هو مشروع، فإن مولود في مقاله المدرج ضمن الموسوعة الفلسفية يؤكد أن النموذج هو نتاج نظرية وحامل لنظرية والعلاقة بين النموذج والنظرية هي علاقة جدلية طالما أنّ النظرية هي التي تحدد إنتاج النماذج في نفس الوقت الذي يؤثر النموذج بحكم التجارب حتى وإن كانت افتراضية في النظرية مما يفيد أن النمذجة تؤكد الطابع المفتوح للنظرية والطابع المرن للنموذج، لمزيد فهم العلاقة بين النموذج والنظرية، يجدر بنا استحضار شكل العلاقة بين النمذجة والتجريب وبيان دلالة التجربة ومنزلتها في عملية النمذجة ذاتها.
• النمذجة والتجريب:
" بتوسط النموذج ترتبط النظرية بالتجربة" على حد عبارة لادريار في كتابه رهانات العقلانية، إذ يمكن أن تقترح التجربة تعديلات على النظرية / النموذج كما يمكن أن تؤول النتائج التجريبية في حدود النظرية وبذلك يعدّ النموذج وسيلة أو وسيطا لا ينبغي أن يتم الخلط بينه وبين الواقع، إذ "أنّ الخريطة ليست الأرض"، كما أنّ التجربة لا ينبغي أن تفهم على معنى خبري أو بما هي منطلق البحث ومنتهاه على غرار التجريب في البراديغم الوضعي، فالتجربة يمكن أن تكون عفوية أو مثارة، ويمكن أن تكون مخبرية أو افتراضية، ومن المؤكد أنّ معيار صلاحية نموذج ما لا يتحدد بالواقع المعطى وإنما بالتناسق والانسجام داخل بنية النموذج النظرية من ناحية وبفعالية النموذج من جهة براغماتية أو تداولية من جهة أخرى، إذ تفترض عدم قابلية النموذج للتحقق واقعيا عجز الواقع المباشر على استيفاء النظرية، أو أنّ النموذج يتسم بعقلانية أكبر مما يكون عليه الواقع المعطى، فضلا على أن بعض التجارب تبدو مستحيلة بالنظر إلى الكلفة الباهضة للتجارب، وهو ما يؤكد أيضا أن معيار صلاحية النموذج إنما تتحدد بضرب من المواضعة أو الاتفاق بين المجموعة العلمية، وحتى "إن كان البناء مستمدا في جانب منه من المعلومات المسبقة عن خصائص المواضيع فإن النموذج يعيد تشكيلها انطلاقا من مقولات خاصة".وفق قول لادريار
العلاقة مع الواقع تقوم على الفرضية لا بمعناها الكلاسيكي الذي جعل منها إمكانية للتحقق عيانيا أو تجريبيا، وإنما هي افتراض أي أنّ النموذج لا يخضع للفصل الكلاسيكي بين النظر والنظرية بل يقيم تشابكا [imbrication] بين النظر والفكر فيكون أداة النظر la visibilitéوأداة التعقل l’ intelligibilité لهذا الواقع الافتراضي virtuel. فالمفهوم الأساسي الذي تقوم عليه عملية النمذجة هو مفهوم التعقلية الذي يمكن من نمذجة الأنساق المعقدة وحل مشاكل الواقع.
• النمذجة والتفسير أو الفهم:
ترتبط النمذجة بالملاحظ المبتكر [OBSERVATEUR CONCEPTEUR ]، ويؤكد لوموانيو أن المعرفة المبنية أو المنمذجة ذات طبيعة فينومينولوجية، والتي بموجبها لا يمكن أن نفصل بين الذات العارفة والظاهرة موضوع المعرفة، أمّا الفرضية الثانية فمن طبيعة تيلولوجية(تدرس التيلولوجيا نظام الغايات أو نسق الأهداف) تتصل بالهدف الذي يحرّك الذات العارفة لمعرفة ظاهرة أو موضوع ما. تنظر هذه المقاربة الإبستمولوجية إلى المعرفة بما هي "معرفة فاعلة " على حد عبارة لوموانيو ، بحيث لا ينبغي البحث عن التفسير وإنما عن تمثلات يمكن لنا إبداعها.
يفيد الفهم الإنجاز [ أنا أفهم يعني أنا أنجز أو أجسد] على حد عبارة لادريار. فعوض أن نفرض على النموذج مهمة تفسير الكون (ميكانيكي أو سببي أو ديناميكي أو طاقي) ، يمكننا أن نبني وأن نشرع النظر إلى العمل العلمي [النمذجة] بما هو نماذج للفهم (روني توم) أو بما هو وسائط للعقلنة (سوزان بشلار)، أو بما هو تمثلات إجرائية يمكنها أن تلعب دور الفعل، " لم أعتقد أبدا في التفسير" على حد عبارة بول فاليري والذي يضيف
"ولكنني اعتقدت في ضرورة البحث عن تمثلات على أساسها يمكننا أن نفعل، كما لو كنا نشتغل على خريطة، أو كما يشتغل المهندس على رسم منجز... والذي يمكن من الفعل".
• النمذجة والحقيقة:
تقترح ابستيمولوجيا النمذجة معرفة بوصفها تمثلا، أو نموذجا يسمح لنا الفهم الذي يقدّمه لنا بشأن ظاهرة ما الفعل فيها طالما " أنّ الحقيقي هو الفعل ذاته " أو طالما " أنّ الحقائق ليست أشياء تكتشف وإنما أفعال نقوم بها، إنها أبنية وليست كنوزا".
على غرار فلسفة ما بعد الحداثة، فإنّ هذه المقاربة قد تتهم بالنسبية العدمية، وقد تفهم على معنى تأكيد النزعة الريبية في العلم والمعرفة العلمية وقد تربك صورة العلم التي عاشرتنا طويلا، وهو ما يستبعده دعاة النمذجة والمدافعين عن مشروعيتها، إذ يعتبرون أنّه إذا لم يكن بالإمكان تأسيس اليقين الذي يسمح لنا بإنتاج معرفة حقيقية، فإنه بالإمكان في نظرهم إنتاج معرفة على صورة السنفونية أو اللحن الموسيقي الطويل المركب،فلا يمكننا وفق هذه المقاربة الحديث عن المعرفة وكأنها بناء معماري تكون قاعدته صخرة ثابتة عليها تتأسس المعرفة الحقيقية ولكن يمكننا أن نقيم مباحث متعددة تترابط فيما بينها وتنتج معرفة مختلفة في دلالتها عن التصور الكلاسيكي للمعرفة.وهو ما يشرع لحلول المعنى بدل الحقيقة أو النظر إلى الحقيقة بما هي إمكان، أو حكم عرفاني مفتوح ومرن وأن معيار هذا الحكم هو الانسجام الداخلي والفعالية، وهو ما يتأكد من خلال قول بياجي" لا نعرف موضوعا إلا بالفعل فيه وتحويله" وعلى هذا الأساس تنظر إبستيمولوجيا النمذجة إلى الواقع الموضوعي انطولوجيا، الواقع في ذاته، بوصفه حدّا يستحيل بلوغه، أمّا الواقع الذي نريد تعقّله فهو عبارة عن تمثّل، بحيث تحل البينذاتية محلّ الموضوعية،المعنى محل الحقيقة، والفهم محل التفسير وبهذا المعنى تقترح النمذجة تجاوز النقائض الكلاسيكية بين المثالية والخبرية بين الذات والموضوع،بين النظري والتطبيقي، بالسعي إلى إنتاج معارف مجدية أو قابلة للتجسيد وتراهن على العلوم التطبيقية أو المطبقة.
تفترض إبستيمولوجيا النمذجة إذن تصورا مغايرا للمعرفة وشروطها ومعاييرها عما كانت عليه في المقاربة الوضعية، إذ لا شك أنّ مثل هذه المقاربة تتعارض مع الإبستيمولوجيا الوضعيةـ الواقعيّة والفرضيّة الأنطولوجيّة التي تقوم عليها والتي تقرّ بأن للواقع وجودا موضوعيا مستقلا ومع الفرضية التي تقر بمبدأ الحتميّة أي وجود علاقات موضوعية ضرورية وثابتة تحكم الظواهر وكأنّ نظام الطبيعة الذي ينتجه العلم ليس إلاّ النظام المعطى الذي نكتشفه بواسطة المنهج العلمي.
• الحدود الإبستمولوجية للنمذجة
أ.في علاقة بالحقيقة:
إنّ مقاربة العلم بتعريف النمذجة العلمية بما هي قدرة على إنتاج نماذج قوامها وعي الفكر العلمي بطبيعة نشاطه العرفاني بما هو صانع نماذج مرتبطة بسياق اجتماعي محدّد، تعني التخلّي عن النظر إلى العلم بما هو إنتاج لحقائق كلّية وموضوعية تفسّر الواقع كما هو واعتباره على خلاف ذلك اختراع نماذج لوضعيات أو أحداث أو ظواهر مرتبطة بسياقات واختيارات، بما يعني تجاوز براديغم المعرفة النظرية المحض إلى براديغم المعرفة ذات المنحى العملي.تكمن المفارقة في أنّ تحرّر العلم من النزعة الواقعية قد منحه قدرة أكبر على معالجة الواقع والتحكّم فيه، بواسطة ما ينتجه من نماذج، تسمح له بفهم الظواهر عبر تمثيلها والفعل فيها.
وإذا أقررنا بأنّ العالم لا يتعامل مع وقائع موضوعية ومعطاة بل هو الذي يبني موضوعاته ذهنيا، وإذا ما كان في تعامله مع واقع شديد التعقيد، ملزما بالتفكير بواسطة النماذج التي بفضلها يختبر ما يتصوّره من فرضيات، فلا معنى للقول عندها بخصوص نموذج ما بأنّه صحيح أو خاطئ، ففي الاحتكام إلى الصلاحية والملائمة ما يعني التخلّي عن مطلب الحقيقة، أو لنقل أنّ الأمر يتعلّق بتغيّر في المعايير بإحلال اليسر والملائمة والصلاحية أو عدمها محلّ الصواب والخطأ. أليس في اعتبار الصلاحية معيارا للنموذج والملائمة معيارا للنظرية وفقا للرؤية المواضعاتية في العلم، إنّ استبدال الحقيقة بالصلاحية يستند إلى تصوّر يفترض تجاوز التصوّر الكلاسيكي والوضعي للعلم في علاقته بالحقيقة وبالواقع " إنّه بالتأكيد (النموذج) تمثيل ملائم؛ أمّا بخصوص حقيقته فإنّ السؤال المناسب الذي يجب طرحه ليس معرفة ما إذا كان النموذج حقيقيا أم لا، بل ما إذا كان يحتمل أن يكون صحيحا أو خاطئا، لكنّه في الغالب ليس كذلك".
ب. في علاقة بالواقع:
يبدو أن العلم المنمذج لا يهتم بالواقع، ولا يسعى لإنتاج معرفة بشأن الواقع في كليته، إذ أن الفرضية الفينومنولوجية للنمذجة تفيد أن الملاحظ المبتكر أو منتج النماذج لا يعكس إلا واقعه، أي رؤيته للواقع، وكأن النموذج إنما يبني واقعه، وفق هذا التحديد لا تكون النمذجة إلا إختزالية، وإذا ما استحضرنا علاقة إنتاج النماذج بالسياق من ناحية وبالبعد التيلولوجي
من ناحية أخرى تأكد لنا هذا البعد الإختزالي.
في علاقة بالنظرية:
إنّ النموذج تمثل وتمثيل عن طريق أشكال في أوسع معانيها، فهو بذلك يحقق تصورا أو رؤية نظرية، ولكن النموذج ليس له مع ذلك دلالة النظرية العلمية، فدلالته التطبيقية أي اعتباره نظرية موجهة نحو الفعل والإنجاز والتحكم أساسا، ما يبعده عن معنى النظرية، فالطابع الغائي للنمذجة يسمح بتحقيق ضرب من التأليف، أو بإنتاج نظرة منسقة [stylisée ] للواقع . إنّ النموذج يظهر عالما بسيطا مشابها أو مماثلا للوضعية "موضوع الدراسة " ويضفي عليه المعنى بفضل هذه المماثلة. والحقيقة أنّ التظنن على صلة النمذجة بالنظرية يتعمق حين نستحضر العلوم الجديدة على غرار علوم الإعلامية والهندسة، فتطور الإعلامية أنتج فيما أنتجه أنشطة جديدة جدّ هامة إقتصاديا واجتماعيا تستعمل في سياقات مختلفة والتي تسمى نمذجة، وتنتج هذه الأنشطة تمثلات كمية مشابهة في ظروف إنتاجها ظروف بلورة المعرفة العلمية، ولكنها تستخدم في سياقات مختلفة من أجل اتخاذ القرار في شركة أو مصلحة من مصالح المؤسسات، أو بما هي وسيط للتواصل بشأن مواضيع معينة اقتصادية كانت أو مدنية أو اجتماعية، وإذا كان العلم بحسب نيكولا بولو " قد يتخذ من النموذج وسيطا لتوضيح بناءاته النظرية، فإن المهندس لا يملك في الغالب نظرية مرجعية تكون إطارا لفعله أو نشاطه".
سواء تعلقت النمذجة بإعداد ملف من أجل اتخاذ قرار جمعي أو تعلق الأمر بتمثل " منجز" عن طريق الإعلامية بغاية إنتاج ما [ une production ]، فإنّ كل نمذجة " إنّما تنخرط ضمن سياق اجتماعي وهو ما يضفي عليها طابع النجاعة ولكن أيضا طابع الدنس" على حدّ عبارة نيكولا بولو.
في علاقة بالعلم:
ليست النمذجة وفق قراءة بولو طريقة علمية وإنّما طريقة تستعمل العلم، وخاصة علم الإعلامية الذي يستخدم وسيطا وأساس الانتقال من حقل العلم إلى مجال المجتمع، وغموض النمذجة يكمن في تقديمها في صورة علم مطهر في حين أنها منغرسة في رهانات مخصوصة وتابعة لجهات غير علمية حتّى وإن بدت النمذجة متماسكة في بنيتها، وصارمة في لغتها، إذ مثلما يمكن أن نغالط باستعمال اللغة الطبيعية، يمكن أن نغالط باستعمال النماذج " وليس للرياضيات بهذا الخصوص أية فضيلة تطهيرية، على خلاف ذلك تكون الرياضيات الصحيحة في ظاهرها، لياقة وأدبا يمكن أن يخفي الغايات الأقلّ نبلا". وهو ما يؤكد أنّ النمذجة لا تعبر عن السمة المميزة للعلم وإنّما "عن الصورة البورجوازية للعلم" على حدّ عبارة آلان باديو، صورة يعلن فيها العلم على وجه الملأ علاقته العضوية برأس المال بعد أن كان يتخفى وراء الموضوعية والحياد. إن النظر إلى العلم بما هو نمذجة يكشف بذلك عن افتقاده الاستقلالية، ولكأننا أمام عقلانية "تبرر السيطرة والهيمنة والاضطهاد" استعارة لقول ماركوز، لتستحيل العقلانية لاعقلانية، والتعقل جنونا، والذكاء غباء، مادام العلم يتحول باسم هذه المقاربة إلى خطاب يعالج
مشاكل جزئية وينتج تمثلات في مكاتب الخبراء أو مكاتب الدراسات ورجال الأعمال والمؤسسات العابرة للقارات والمؤسسات العسكرية، بغاية الفعل والتحكم دون قراءة للعواقب، أو المخاطر التي يمكن أن تنجر عن هوس المصلحة والمنفعة والجدوى
والنجاعة، والأمثلة عديدة في هذا الاتجاه سواء تعلق الأمر بثقب الأوزون، أو بالأسلحة الغبية أقصد ما تسمى بالذكية، أو الزراعات المحولة جينيا . قد لا يتعلق الأمر برفض النمذجة في ذاتها، وإنما رفض مبادئها والغايات التي تحكم إنتاجها، وهو ما يستدعي التفكير في نمذجة بديلة، وهو ما يحمّل رجال العلم والفلاسفة ورجال السياسة والمجموعات الإيتيقية مسؤولية إنقاذ العلم من جنون الهيمنة، أو من كلّي الموت، غير أنّ السؤال الذي يطرح في خاتمة هذه المداخلة: هل يمكن للإيتيقي أن يضطلع بمثل هذه المهمة؟ ألا ينبغي التفكير في براديغم جديد يحقق مصالحة العلم مع ذاته ومع إنسانية الإنسان ...



http://i59.tinypic.com/htiaux.jpg

بالتوفيق للجميع


موقع وظائف للعرب في تونس والجزائر والمغرب العربي والخليج والشرق الاوسط واوروبا
من هنا (http://www.jobs4ar.com/jobs/index.php)

http://img805.imageshack.us/img805/5921/jobsfacebook.jpg (http://www.facebook.com/jobs4ar)

وظائف اليوم
05-31-2015, 06:03 PM
العلم بين الحقيقة والنمذجة للمقبلين على امتحان البكالوريا