المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : نقد ابن رشد لمذهب الذرية عند المتكلمين - منتدى الفلسفة



منحة دراسية الماجستير
05-20-2014, 03:40 PM
نقد ابن رشد لمذهب الذرية عند المتكلمين - منتدى الفلسفة



منتدى الفلسفة:- نقد ابن رشد لمذهب الذرية عند المتكلمين

المقدمة
المتكلمون هم جماعة من المفكرين ظهروا أولاً في القرن الثاني الهجري في أعقاب ما جرى من حوارات في العقيدة في مسائل تكفير مقترف الكبيرة والبعث والمعاد وحشر الأجساد والقضاء والقدر وعلم الباري وصفاته، وكان أول من تكلم في هذه المسائل واصل بن عطاء المتوفى (131هـ/748م) وعمرو بن عبيد (ت145هـ/762م) ومن بعدهم أبو الهذيل العلاف (ت234هـ/849م) وغيرهم.
وكان أول المتكلمون قد سموا معتزلة، ولا نعرف على وجه التحديد أصل هذه التسمية ويقال أنها أُطلقت على واصل بن عطاء وجماعة من أصحابه اعتزلوا مجلس الحسن البصري (ت 110 هـ) بعدما اختلفوا معه بشأن تصنيف مرتكب الكبيرة أهو مؤمن أم كافر. يقول الشهرستاني
"دخل واحد على الحسن البصري فقال: يا إمام الدين لقد ظهرت في زماننا جماعة يُكفًرون أصحاب الكبائر، والكبيرة عندهم كُفر يُخرج عن الملة، وهم وعيدية الخوارج، وجماعة يرجئون أصحاب الكبائر والكبيرة عندهم لا تضر مع الإيمان، بل العمل على مذهبهم ليس ركنا من الإيمان، ولا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وهم مرجئة الأمة. فكيف تحكم لنا اعتقاداً؟ فتفكر الحسن، وقبل أن يجيب قال واصل بن عطاء: أنا لا أقول أن صاحب الكبيرة مؤمن مطلقاً ولا كافر مطلقاً بل هو في منزلة بين المنزلتين: لا مؤمن ولا كافر. ثم قام واعتزل إلى اسطوانة من اسطوانات المسجد يقرر ما أجاب به على جماعة من أصحاب الحسن، فقال الحسن: اعتزل عنا واصل. فسمي هو وأصحابه معتزلة".
وفي رواية أخرى لأبي الحسين الملطي أن المعتزلة هم الذين سموا أنفسهم بهذا الاسم، وذلك "عندما بايع الحسن بن علي (رض) معاوية وسلّم إليه الأمر، إذ اعتزلوا الحسن ومعاوية وجميع الناس. وذلك أنهم كانوا من أصحاب علي فلزموا منازلهم ومساجدهم وقالوا: نشتغل بالعلم والعبادة فسموا بذلك معتزلة"

نشوء علم الكلام جليله ودقيقه
وفي القرن الثالث الهجري تطور الكلام في هذه المسائل إلى محاولات لصياغات نظرية أكثر عمقاً وتأسيساً على يد إبراهيم بن سيار النظام (ت231هـ/845م) الذي كان تلميذاً لواصل بن عطاء وهشام الفوطى (ت217هـ/837م) والشحام (ت232هـ/847م) وعبّاد بن سليمان (ت249هـ/864م) والجاحظ (ت254هـ/847م) الذي كان تلميذاً لإبراهيم النظام، وهؤلاء كلهم من معتزلة البصرة، ومعهم معتزلة بغداد الذين عاصروهم ومنهم بشر بن المعتمر (ت209هـ/825م) وأبو موسى المردار (226هـ/841م) والإسكافي (240هـ/915م). ثم جاء من بعدهم من البصريين أبو علي الجبائي (ت302هـ/915م) وابنه أبو هاشم الجبائي (ت321هـ/933م) ومن معتزلة بغداد أبو الحسين الخياط (ت289هـ/902م) وأبو القاسم الكعبي (ت318هـ/931م) وابو رشيد النيسابوري (ت415هـ/1024م).
ومن المعروف أن فرقة أخرى من المتكلمين تأسست على يد أبي الحسن الأشعري (324هـ/935م) الذي كان من المعتزلة فانشق عنهم وأسس المذهب الأشعري الذي اشتق له مفاهيماً تختلف عن مفاهيم المعتزلة وخصوصاً في مسائل جليل الكلام. وجاء من بعده تلميذه القاضي أبو الطيب الباقلاني (ت402هـ/1013م) ومن بعده أبو المعالي الجويني (ت478هـ/1123م) اللذين أسسا وعمقا كثيراً من مفاهيم دقيق الكلام.
وقد كان للقاضي عبدالجبار الهمداني المعتزلي (ت 415هـ/1059 م) دور تاريخي مهم في توثيق مفاهيم المعتزلة وعطائها النظري الهائل في مسائل علم الكلام من خلال موسوعته الشهيرة (المُغني في أبواب العدل والتوحيد) التي تقع في 21 مجلد، وقد عُثر على ثلثيها بالتقريب كاملة والباقي لا زال مفقوداً.
لقد خاض المتكلمون في أمرين أساسيين هما: الإلهيات والطبيعيات. ففي الإلهيات بحثوا في صفات الباري وأفعاله وقدرته وعلمه وإرادته، إلى جانب البحث في مسائل القضاء والقدر والبعث والمعاد والنشور. وهذه المباحث سميت "جليل الكلام".
مما يلفت النظر أن مباحث الكلام نشأة أولاً ضمن دائرة العقيدة الإسلامية الداخلية، وعلى هذا يتفق جمهور الباحثين القدماء والمعاصرين سواء كانت هذه النشأة قد تسببت عن الفتنة أيام عثمان بن عفان أو عن الاختلاف في حكم مرتكب الكبيرة أو في الاختلاف حول شرعية النزاع بين علي بن أبي طالب ومعاوية وظهور المرجئة وانشقاق الخوارج. لذلك فقد جرى البحث، وقام الخلاف، أولاً في مسائل جليل الكلام. وكانت المشاكل كلها في هذا السجال الكلامي تنحصر في دائرة التأويل، تأويل النص القرآني بوجه خاص باعتباره (أي النص القرآني) المصدر الأساس الذي يتفق عليه المسلمون جميعاً. ولكن عندما توجه المسلمون بفكرهم وعقيدتهم إلى حجاج الملل والأديان الأخرى كالمانوية والسمنية والنصارى صار عليهم أن يقارعوا الحجة العقلية بحجة عقلية مواجهة، فالغير لا يقبل الاستناد إلى آي القرآن ولا نصوص الحديث. لذلك كان لابد من البحث في أصول وفصول العقيدة. وتذكر المصادر أن أبو الهذيل العلاف كان أول المنافحين عن العقيدة الإسلامية في مواجهة العقائد المانوية وعقائد السمنية التي ظهرت بعد فتح المسلمين للهند. فقد بعث هذا الرجل البعوث العديدة إلى خراسان وبلاد الهند كما بعث بعوثاً أخرى إلى بلاد المغرب. ما يهمنا هنا أن الضرورة العملية جعلت أبو الهذيل وأصحابه ومن جاء من بعدهم يؤسسون لنظرية "علم الكلام" بناءً على منطلقات عقلية صرف. فصاروا يبحثون في أشياء العالم كلها المادة وصفاتها وتحولاتها وتفاعلاتها والحركة والسكون والمكان والزمان والثقل والممانعة والوجود والعدم وغير ذلك من الصفات الطبيعية والظاهرية، فخرجوا برؤية شاملة قامت على جملة مبادئ وأُسس عقلية. وقد سميت هذه المباحث في ما يُعرف بالأمور الطبيعية، "دقيق الكلام".

منهج دقيق الكلام
رغم أن أبواالهذيل العلاف وأصحابه أسسوا لدقيق الكلام على أسس عقلية صرف، إلا أن هذه المنطلقات لم تكن لتتأسس دون هدي عقيدي يميز منهجهم ويؤطر رؤيتهم، فقد كان الهدي القرآني دليلاً لها. فالقرآن فضلاً عن كونه كتاب شرع فهو كتاب عقيدة والعقيدة تشتمل على معرفة الخالق ومعرفة المخلوق والعلاقة بينهما، فهما طرفي المعادلة التي تؤلف العقيدة الإسلامية. ولما كان الله هو الخالق وهو العليم المطلق ولما كان الوحي (القرآن) هو رسالته التي بلّغها للناس رسوله الكريم بلسان عربي مبين، فإن منطلق الفهم الإسلامي للعالم هو الرؤية القرآنية في إطارها العام، وللعقل بعد ذلك أن يجتهد ضن هذا الإطار. أما الاجتهاد من خارج الإطار الإسلامي فهو ما ليس منه وهو رد، وهذا هو الابتداع. لذلك اعتمد المتكلمون بعد أبي الهذيل في البحث في مسائل دقيق الكلام منهجاً ينطلق من الله ليفهم العالم ويفسره. خلافاً لمنهج الفلاسفة اليونانيين كأرسطو وأفلاطون ومن شايعهم من فلاسفة المسلمين كالشيخ ابن سينا وأبو الوليد بن رشد، الذين انطلقوا من العالم ليفهموا الله ويعرفوه. هذا هو الأساس في الاختلاف المنهجي بين المتكلمين والفلاسفة. والحق أن السبيل الثاني (أي الانطلاق من العالم إلى الله) ممكن ولربما يكون هو المرجح في بادئ الرأي. لكن النظر مرتين في المسألة يكشف لنا أن العقل وحده لن يستطيع أن التوصل إلى المعرفة الحق بالله كونه يعمل بالقياس. وقد كان هذا (أي اعتماد القياس العقلي في مباحث جليل الكلام فيما يختص بالصفات الالهية) هو الخطأ القاتل الذي ارتكبه المتكلمون في جليل الكلام مثلما هو خطأ الفلاسفة أيضاً عند بحثهم في الإلهيات فيما يسمونه "القياس البرهاني". ففي كلا الحالين قياس للغائب على الشاهد. الأول (أي الذي عند المتكلمين) مستند إلى النص يتأوّله بالعقل قياساً، والثاني (أي الذي عند الفلاسفة) يستند إلى العالم يرفعه بالقياس إلى الله جُزافاً. لذلك لم يكن غريباً أن يتأول أرسطو ومن شايعه السماء أنها حيوان وأن لها نفساً ويتأول أجرامها على أنها كائنات من جنس آخر ويعتبر الجسم السماوي من طبيعة خامسة هي الأثير. ونحن نعلم اليوم أن هذا كله غير صحيح.
ويجد الباحث أن المتكلمين معتزلة وأشاعرة يتفقون على الأغلب في معظم مسائل دقيق الكلام فيما يختلفون فيه جليله. وأبرز اختلافهم هو في مسألة خلق الأفعال ومسؤولية الإنسان عنها، فعلى حين قالت المعتزلة بأن الإنسان خالق لأفعاله، قال الأشاعرة بأن الله هو الذي يخلق الأفعال اعتماداً على قوله تعالى: (والله خلقكم وما تعملون) ولكن حينما شعروا بأن الأفعال الباطلة والمخالفة للشرع يمكن عندئذٍ أن تُعزى بهذا القول إلى الله والله (لا يأمر بالفحشاء) وأن (الله لا يحب المفسدين)، فضلاً عن أن القول بأن الإنسان خالق لأفعاله يتعارض مع آيات قرآنية كثيرة، قالوا بنظرية "الكسب" التي تقول بأن للإنسان كسباً واكتساباً عملاً بالآية (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت).
ومن المعروف تاريخياً أن مباحث جليل الكلام هي التي أنشأت الاختلاف والشقاق بين المسلمين حتى صار بعضهم يُكفّر البعض الآخر، وهذه المباحث في صفات الله وعلمه وقدرته وإرادته هي التي جاءت بكل الترّهات التي شهدها تاريخ الخلاف بين المعتزلة ومن خالفهم من الفرق وهي التي تبلورت في محنة القول بخلق القرآن التي ألقت بضلالها السقيمة على العقيدة والفكر الإسلاميين، وليس غيرها. فلم يكن هنالك خلاف كبير بين المعتزلة والأشاعرة في جملة المبادئ الأساسية لدقيق الكلام. والاختلاف في مباحثه إنما كانت في التفاصيل، تفاصيل القول بشيئية العدم مثلاً أو القول في تجدد الأعراض أو تجدد الجواهر والأعراض معاً. أو غير ذلك من تفاصيل الرؤية في الدقيق. ودعماً لهذا الرأي نقول أن نشوء الأشعرية أنفسهم قد جاء من رحم المعتزلة فأبو الحسن الأشعري كان معتزلياً درس على أبي علي الجبائي (ت 330هـ) وانشق عنهم.
لا بد من التنبيه هنا إلى حقيقة تاريخية تقررها طريقة عرض المتكلمين أنفسهم للمسائل التي سنعالجها وهي أن استدلالهم قد اعتمد الطريقة الجدلية والخطابية، ولم يستخدم المتكلمون في نهجهم أي نوع من الرياضيات أو الحساب غير ما اعتمدوه من أساسيات المنطق والبيان العربي الذي يكمن أساساً في لغتهم فقامت اللُّغة العربيَّة عندهم مقام الرياضيات كما أنهم خلطوا البحث في طبيعة الأشياء مع البحث في صفات الباري وأفعاله في الوقت الذي بحثوا فيه أفعال الإنسان وجبره واختياره، منطلقين من رؤيتهم الشمولية المتداخلة للمسائل التي عالجوها معتمدين منهجهم الذي يبدأ من الله لينزل إلى فهم الطبيعة والإنسان في طريق معاكس تماماً للمنهج اليوناني الذي يبدأ من الطبيعة والإنسان ليصل إلى الإله، لذلك لم يكن همهم الأساس النظر في الطبيعة ومحاولة استكشاف قوانينها ونواميسها بقدر ما كان همهم منصباً على إثبات وجود الله واثبات صفاته وقدرته الحاضرة أبداً. إنما يبقى التأسيس النظري الفكري في دقيق الكلام وما حمله من مبادئ ومفاهيم وما عالجه من مسائل هو العطاء العلمي ذي القيمة التاريخية الأعظم.

مبادئ دقيق الكلام
يمكن القول أن جمهرة المتكلمين اتفقوا على خمسة مبادئ أساسية جعلوها أركان نظريتهم في دقيق الكلام وهذه هي :
1. مبدأ الحدوث: ويقصد به أن العالم وما فيه من أشياء كلها محدثة لها بداية في الزمان ولم توجد عن شيء بل اوجدها الله من العدم.
2. مبدأ التجزئة والانفصال: يقول المتكلمون بأن الأشياء يمكن أن تتجزأ أجزاءاً حتى تصير إلى جزء لا يتجزأ هو الوحدة الأساسية لبناء ذلك الشيء.
3. مبدأ التغير والتجدد: قال المتكلمون بوجود الأعراض (الصفات) وجعلوها متغيرة أبداً لا تبقى على حال فقالوا (العرض لا يبقى زمانين). واعتقدوا أن الأعراض تنعدم ثم تُخلق كل لحظة حالاً فحال.
4. مبدأ الاحتمال والتجويز: قال المتكلمون بأن قوانين العالم ليست حتمية بل جوازية احتمالية يقوم على الأمر باشتغالها الله فهو الحي القيوم وهو الذي يأمر القانون الطبيعي بالاشتغال. لذلك أجاز المتكلمون حصول الخوارق والمعجزات على هامش جوازية القانون الطبيعي، وما يتضمنه من قدر ممكن من الاحتمال.
5. مبدأ النسبية: الزمان والمكان عند المتكلمين المسلمين ماهيتان متكاملتان فلا زمان بلا مكان ولا مكان بلا زمان وكلاهما يأخذ معناه من الحدث. والزمان تقدير الحوادث.

هذه المبادئ نجدها مبثوثة في مصادر علم الكلام وما تركوه من آثار مكتوبة. ولن يجدها الباحث بالضرورة مجتمعة في كتاب واحد من كتبهم لكننا شخصنا هذه المباديء بعد دراسة مستفيضة تم تلخيصها في بحثنا الموسوم "القيمة العلمية لدقيق الكلام" المشار إليه في الهامش رقم(4).
سنعالج في هذا البحث مبدأ التجزئة عند المتكلمين في إطاره العام، ثم نعرض لإعتراض الوليد إبن رشد على هذا المبدأ لنبين وجه الاعتراض وفق المنطق العقلي البرهاني الذي إعتمده إبن رشد الذي يستند إلى المعطيات والمفاهيم العلمية السائدة على عصره. ثم نضع إعتراض إبن رشد في ميزان المعرفة العلمية المعاصرة في إطارها الفلسفي العلمي لنميز من خلال تلك الموازنة محاسن رأيه ومثالبه.

التجزئة ومفهوم الجوهر الفرد
ما يهمنا في هذا المبحث هو مبدأ التجزئة والانفصال، فقد قال المتكلمون بمبدأ إمكان تجزئة الأجسام إلى ما له نهاية، وهذا الجزء الذي تتوقف عنده التجزئة أسموه (الجزء الذي لا يتجزأ) أو (الجوهر الفرد)، أي أن الجوهر الفرد هو الوحدة الأساسية في بناء الأشياء. وهذا خلاف ما قال به عامة الفلاسفة من أن التجزئة ممكنة إلى ما لا نهاية له من الأجزاء. يقول أبو المعالي الجويني "اتفق الإسلاميون على أن الأجسام تتناهى في تجزيتها حتى تصير أفراداً، وكل جزء لا يتجزأ فليس له طرف واحد شائع لا يتميز، وإلى ذلك صار بعض المتعمقين في الهندسة وعبّروا عن الجزء بالنقطة وقالوا بأن النقطة لا تنقسم " . وقالوا " والدليل على إثباته أن الفيل أكبر من الذرة ولو كان لا غاية لمقادير الفيل ولا لمقادير الذرة لم يكن أحدهما أكثر مقادير من الآخر ولو كان ذلك كذلك لم يكن أحدهم أكبر من الآخر كما إنه ليس أكثر مقادير منه". وفي هذا السياق من البرهان يأتي قولهم: " إن كل ما حصره متناه يجب أن يكون متناهياً وما لا يتناهى لا يحصره متناه". (http://www.jobs4ar.com/jobs/index.php)
كما يقول أبو سعيد في (كتاب الغنية في أصول الدين) " فالجوهر كل ذي حجم متحيز والحيز تقدير المكان ومعناه أنه لا يجوز أن يكون عين ذلك الجوهر حيث هو وأما العرض فالمعاني القائمة بالجواهر كالطعوم والروائح والألوان والجوهر الفرد هو الجزء الذي لا يتصور تجرئة عقلا ولا تقدير تجزئة وهما وأما الجسم فهو المؤلف وأقل الجسم جوهران بينهما تأليف والأكوان اسم للاجتماع والافتراق والحركة والسكون".
ويعرّف الجرجاني الجوهر بأنه: "ماهية إذا وجدت في الأعيان كانت لا في موضوع" . ويعني ذلك أن الجوهر هو ماهية تجريدية لأن وجودها في موضوع (أي محل) يعني تجسيدها.
وقامت حجتهم في هذا على مقدمة "أن كل ما حصره متناه يجب أن يكون متناهياً وما لا يتناهى لا يحصره متناه". والجوهر عند المتكلمين له قَدْر (أي مقدار) لكن ليس لقدره بعض (أي لا يتجزأ). يقول الجويني : "الجوهر الفرد له حظ ثابت من المساحة غير موقوف على انضمام غيره إليه وله قدرٌ غير أن ليس لقدره بعض والجوهر يقدر الجوهر"
والجواهر عند المتكلمين لا تتداخل مع بعضها البعض، بل تتجاور، يقول الجويني: "ما صار إليه أهل الحق أن الجواهر لا تتداخل ولا يجوز وجود جوهر بحيث ذات جوهر آخر وإن أطلق في التجاوز تداخل الجواهر واختلاطها فالمعنى تجاورها" .
لكنهم اختلفوا في مسألة تجدد الجواهر، فقال أغلب المتكلمين بأن الجواهر باقية دون تجدد وقال النظام أنها متجددة حالاً فحال، حيث يذكر الجويني في الشامل "الجوهر باق غير متجدد، وذهب النظام إلى أنه متجدد حالاً فحال" .
موقف إبن رشد من فرضية الجوهر الفرد
كان إبن رشد في جميع مواقفه الفكرية وآرائه يعبّر عن رؤية الفلاسفة ومنهجهم الفكري وبخاصة آراء أرسطو طاليس. ولما كانت الفلسفة الأرسطية ترى أن الأشياء قابلة للتقسيم إلى ما لانهاية له من الأجزاء لذلك فقد رفض ابن رشد مبدأ التجزئة والانفصال مبدأياً، محتجاً بالمنطلقات التالية:
1. إن وجود جوهر غير منقسم ليس معروفاً بنفسه.
2. إن في وجوده أقاويل متضادة متناقضة.
3. إنه ليس في صناعة الكلام استنتاج الحقيقة بل هي لصناعة البرهان.
4. أن الأشعرية قد استعملت في إثبات وجود الجوهر الفرد أدلة خطابية في الأغلب وليس برهانية.

يقول ابن رشد :
"فأما المقدمة الأولى وهي القائلة أن الجواهر لا تتعرى من الأعراض فإن عنوا بها الأجسام المشار إليها القائمة بذاتها فهي مقدمة صحيحة وإن عنوا بالجواهر الجزء الذي لا ينقسم وهو الذي يريدونه بالجوهر الفرد ففيها شك ليس باليسير وذلك أن وجود جوهر غير منقسم ليس معروفاً بنفسه، وفي وجوده أقاويل متضادة شديدة التعاند وليس في قوة صناعة الكلام تخليص الحق منها وإنما ذلك لصناعة البرهان وأهل هذه الصناعة قليل جداً".
ثم يتعرض ابن رشد لمناقشة ما يسميه الدليل الخطابي الذي يسوقه المتكلمون الأشعرية فيقول: "وذلك أن استدلالهم المشهور في ذلك هو أنهم يقولون أن من المعلومات الأول أن الفيل مثلاً إنما تقول فيه أنه أعظم من النملة من قبل زيادة أجزاء فيه على أجزاء النملة، وإذا كان ذلك كذلك فهو مؤلف من تلك الأجزاء وليس واحداً بسيطاً، وإذا فسد الجسم فإليها ينحل، وإذا تركب فمنها يتركب".
في هذه الجملة يعرض ابن رشد لفهمه ما يعنيه القول بوحدة تكوين الموجودات بناءً على نظرية الجوهر الفرد (الذرية)، فهو يعني أن تكون الأجسام كبيرها وصغيرها مؤلفة من الأجزاء نفسها فمنها يتركب وإليها ينحل. وقد ضرب ابن رشد مثال الفيل والنملة لتوضيح المسألة مبيناً أن القول بالجوهر الفرد يعني أن الفيل ليس واحد صحيح (بسيط) بل هو مركب من أجزاء أو وحدات أولية.
ثم يتقدم ابن رشد بحجته في إبطال القول بالجوهر الفرد فيقول "وهذا الغلط إنما دخل عليهم من شبه الكمية المنفصلة بالمتصلة فضنوا أن ما يلزم في المنفصلة يلزم في المتصلة" هاهنا إذن يميز ابن رشد بين الكميات من حيث كونها منفصلة ومتصلة ليعرّف ما يعنيه بذلك بقوله:
"وذلك أن هذا يصدق في العدد أعني أن نقول أن عدداً أكثر من عدد من قبل كثرة الأجزاء الموجودة فيه أعني الوحدات، وأما الكم المتصل فليس يصدق ذلك فيه ولذلك نقول في الكم المتصل أنه أعظم وأكبر ولا نقول إنه أكثر وأقل ونقول في العدد إنه أكثر وأقل ولا نقول أكبر وأصغر".
في هذه العبارة يستخدم ابن رشد ضمنياً الحجة اللغوية لتأكيد ما يذهب إليه من التمييز بين الكم المتصل والكم المنفصل. فالكموم المتصلة، بحسب رأيه، هي وحدات بسيطة لا تتركب من وحدات أبسط منها، أما الكموم المنفصلة كالعدد فهي التي تكون فيها كثرة الأجزاء (أي الوحدات) وتعددها.
ثم ينتقل ابن رشد إلى استنتاج بليغ فيقول:
"وعلى هذا القول (أي القول بالجوهر الفرد) فتكون الأشياء كلها أعداداً ولا يكون هنالك عظم متصل أصلاً فتكون صناعة الهندسة هي صناعة العدد بعينها".
بهذا الاستنتاج رفض ابن رشد القول بمبدأ التجزئة والانفصال وما قام عليه من مفهوم الجوهر الفرد. فإن المعهود في المعرفة على عصره أن صناعة (أي علم) العدد هي غير صناعة الهندسة، فالأول إنفصالي والآخر إتصالي. ونظراً لاختلاف علم الهندسة واستقلاله عن علم العدد فقد ذهب ابن رشد إلى رفض القول بفرضية الجوهر الفرد. فالهندسة تصف الخطوط والسطوح والحجوم، وهذه كلها أعيان متصلة لأن الخط يحتوي بحسب التعريفات الهندسية الأساسية على ما لانهاية له من النقاط والسطح كذلك يمكن أن نخط عليه ما لانهاية له من الخطوط والحجم يمكن تأليفه من ما لانهاية له من السطوح المتلاصقة، بينما تصف صناعة العدد الأجزاء المنفصلة، كأن يكون لدينا عدد معلوم من التفاح مثلاً، فهذه كلٌ منها واحد صحيح لكنها أعيان منفصلة لكل منها مقداره.
وكما نرى فإن طريقة إبن رشد في هذه المحاكمة هي أشبه بالطرق البرهانية الهندسية التي تتدرج بالقول بفرض معين ثم يتدرج معه إلى في سياق برهاني ليصل إلى نتيجة. فإن كانت النتيجة مقبولة وغير متناقضة مع ما هو معهود أقر بالفرض أما إذا كانت النتيجة مناقضة للمسلمات المعروفة أو البديهيات التي يقررها العقل، رفضها.
وما توصل إليه ابن رشد في هذه المحاكمة شبه البرهانية أن القول بمبدأ التجزئة والانفصال وما يتضمنه من فكرة أو مفهوم الجوهر الفرد سيعني أن تكون صناعة الهندسة هي صناعة العدد بعينها (أي ستصبح الماهيات والصفات الهندسية صفاتاً عددية).
محاكمة استنتاج إبن رشد بضوء العلم المعاصر
ما يعنينا في هذه المناقشة العقلية العلمية هو أن ابن رشد قد توصل فعلاً إلى استنتاج صحيح هو بالفعل ما صار إليه توصيف الهيئات الهندسية في العالم الذري في وقتنا المعاصر. ففي الوقت الذي كان وصف علوم الفيزياء للمادة حتى نهاية القرن التاسع عشر الميلادي يقوم على مبدأ الاتصال، أي القول بأن أي جسم قابل للتجزئة إلى ما لانهاية له من الأجزاء، كانت الأشياء تعتبر وحدات مستقلة بذاتها يتم توصيفها إما بالعدد فتقول واحد صحيح أو اثنين أو ثلاثة... وإما بالوصف الهندسي، فتقول هذا دائري وذلك كروي والآخر بيضوي.
أما حين اعتمد الفيزيائيون الوصف الذري للعالم مع بداية القرن الميلادي العشرين، فإن البنية الذرية المعتمدة للمادة والطاقة نفسها حولت التعبير الكمي المتصل إلى تعبير عددي منفصل. وليس المقصود بهذا التحول في البنية تجزئة الجسم الواحد إلى أجزاء منفصلة وحسب، بل إن القول بذرية الكميات الفيزيائية التي كان معروفاً كونها متصلة كالطاقة والزخم الزاوي والشحنة قد أدى إلى أن تصبح (الأشياء كلها أعداداً) وليس من (عظم متصل أصلاً). وفعلا فقد صارت صناعة الهندسة هي صناعة العدد بعينها. فاليوم تتعامل مع الفيزياء الذرية مع مدارات الإلكترونات ليس بدلالة أشكالها الهندسية بل بدلالة ما يسمى الأعداد الكمية Quantum Numbers فلا نقول أن مدار الإلكترون هو دائري بل نقول أن عدده الكمي هو 0p= ولا نقول أنه بيضوي (إهليلجي) بل نقول أنه عدده الكمي p=1 وهكذا لغيرها... إذ تحولت صناعة الهندسة في البنية الذرية إلى صناعة العدد.
لو أن ابن رشد قطع جملته عند قوله "ولا يكون هنالك عظم متصل أصلاً "، وتوقف عندها لما تمكّنا من تحميل قوله هذه المعاني التي نوردها هنا. إلا أن قوله "فتكون صناعة الهندسة هي صناعة العدد بعينها" تجعلنا نُحمّل ما قاله المدلولات التي نذهب إليها. وهذا هو الفرق بين تحميل النص معاني أكثر مما يحتملها أو فهمه كما ينبغي لجلال قدره. فالتعميم الذي ذهب إليه ابن رشد هو القصد الذي رآه بعينه الفلسفية الحكيمة ولربما لن يكون غيره بقادر على مثل هذه البصيرة.
وعلى الرغم من بطلان رفض ابن رشد لمبدأ الذرية الذي قال به المتكلمون وذلك بناءاً على ما كشفته علوم الفيزياء خلال النصف الأول من القرن العشرين من أن البنية الذرية هي الصورة الصحيحة المعبرة عن تكوين المادة وائتلاف أجزائها، إلا أن السياق البرهاني الذي إعتمده إبن رشد كان صحيحاً كما أن عواقبه البرهانية التي تترتب عليه هي صحيحة أيضاً بالتأكيد، وهذا هو الأمر القيّم فيما ذهب إليه.
أما كيف ننظر إلى الأمر اليوم فإن من الإنصاف القول أن رؤية المتكلمين التي تفترض التجزئة المحدودة هي الأصح على الرغم مما قد يتبادر إلى الذهن من أن هذه الرؤية لم تكن معالمها واضحة بصورة كافية؛ فالجوهر الفرد كما أوردنا في أول هذا البحث هو ماهية تجريدية لا يجد معناه الحقيقي إلا بوجود العَرَض الذي هو صفة واجبة له. وكما طرحه المتكلمون فهذه الماهية التجريدية هي واحدة على رأي بعضهم كالجبائي ومدرسته، أو مختلفة (لكنها محدودة الأنواع) على رأي آخرين مثل ابراهيم النظام . لكن الأمر المهم ضمن إطار هذا البحث هو مبدأ التجزئة والانفصال نفسه، فهذا المبدأ على عموميته هو الرؤية الأصح علمياً لتركيب العالم، وقد ظهر من أمر الفيزياء الحديثة كثير من الظواهر التي تترتب على القول بالتجزئة المحدودة، مما يعضد صحة هذا المبدأ.



http://i57.tinypic.com/141vadu.jpg

بالتوفيق للجميع


موقع وظائف للعرب في تونس والجزائر والمغرب العربي والخليج والشرق الاوسط واوروبا
من هنا (http://www.jobs4ar.com/jobs/index.php)

http://img805.imageshack.us/img805/5921/jobsfacebook.jpg (http://www.facebook.com/jobs4ar)

وظائف اليوم
01-15-2015, 10:14 PM
نقد ابن رشد لمذهب الذرية عند المتكلمين - منتدى الفلسفة